الرئيسيةرأي وتحليل

هكذا تدخل “الشيطان الشاطر” وشوّه معنى الهدية – ناجي سعيد

التقدير حاجة أساسيّة تمنح الشخص راحة وسعادة وطمأنينة

حين تدخل إلى محلّ زهور، لتبتاع باقة وردٍ، يُمطرك البائع بوابل من الأسئلة: ما المناسبة؟ ولمن الهدية؟ رجلٌ أمّ إمرأة؟. كم عمره/ها؟ وما صِلتك به/ها؟… ولو كنت تعلم تمامًا ما تريد، فستنجو من عقاب التحقيق.

سناك سوري-ناجي سعيد

أمّا لو كنت متردّدًا في خيارك، فستقع ضحيّة البائع، الذي سيوجّهك، ماذا تختار من نوع ورد؟ وما هو المُناسب ليصلح كهديّة للأم، للصديق، للحبيبة، إلخّ… وما يزعجني هنا، هو أن “يتفلسف” بائع الزهور-البارع في تجارته- ليشرح لك معنى ومفهوم الهديّة.

ومن البديهي، لو سألنا عامّة الناس عن هذا المفهوم، ومعناه بالنسبة لهم، فالأثر الإيجابي ينعكس على الطرفين: مُقدِّم الهديّة، ومُتلقّيها. فالأول يشعر بتحقيق الذات والسعادة، لأنه استطاع منح السعادة لمن يحب. ولو تملّك مُقدّمَ الهديّة (الطرف الأوّل) الشعورُ بالعطاء والكرم، فالذي وصلته الهديّة (الطرف الثاني) يشعر بالغبطة والسرور، وذلك لإدراكه بأن أحدًا يهتمّ به ويُقدّره.

فالتقدير حاجة أساسيّة تمنح الشخص راحة وسعادة وطمأنينة. وهناك مجموعة من المناسبات تعطي مشاعرَ جميلة، تحملها الهدية، وجميعها إيجابيّة الأثر: الحب/ الميلاد/ ذكرى الزواج/ نجاح/ عمل جديد/ منزل جديد.

ولو ذهبنا للتحليل العلمي لأثر الهديّة على الإنسان، لأدركنا بأن الهديّة -بوصفها حدث سعيد- فهي تنتج “خبرة سارّة” للطرفين، وهنا يفرز الدماغ مادّة ” دوباميين أندرومين” فتجعل الإنسان يتمتّع بما يقوم به. وهذا يوضّح المسار الفردي للتفاعل مع الهديّة.

ولكنّ كما يُقال في الأفلام المصريّة: “الشيطان شاطر!” وما أودّ الكتابة عنه، هو كيف تدخّل شيطان المجتمع بتركيبته المُعقّدة، وشوّه مفهوم الهديّة. لينزلق المفهوم إلى “رشوة”!!.

اقرأ أيضاً: المُحاسبة – ناجي سعيد

نعم فقد بدأت القصّة مع خضوع النظام الإجتماعي الإنساني، إلى نظام تحكمه العلاقات الإقتصاديّة، وتحديدًا خضوع الفقراء للطبقة الغنيّة، من ناحية الغرق في ظاهرة “التقليد الإجتماعي”. فلا يمكن لشخصٍ دُعي إلى حفل زفاف، إلاّ أن يأتي حاملاً هديّة تلائم مستوى العريس الإجتماعي! والمشكلة تقع هنا، عند تدخّل المصلحة الشخصيّة بذلك.

فلو كان المَدعو مرتبط بالعريس بمصلحة عملٍ ما، وقد يحتاجه لاحقًا.. لكَبُرَ حجمُ الهديّة وثمنُها طبعًا! وهذا ما يُصنَّف أخلاقيًّا “رشوة”. عكس الهديّة التي تخلق مناخًا إيجابيًّا يسود العلاقة بين الطرفين، وأهميّة ذلك يعود إلى أن الهديّة هي مفهوم العطاء دون انتظار المقابل.

ومن ثمّ طغى البعد المجتمعي على إعطاء معنى سلبي للهديّة، فأصبحت تأخذ منحى المجاملة المشروطة. أي أن الهديّة لغة التواصل الدبلوماسي، في عالمنا. فمن يصدّق بأن أحد وزراء لبنان صرّح في الإعلام، بأنّ الطائرة التي يملكها، هي مجرّد هديّة من صديق!!!! وأجدّ كلّ التبرير لأي موظّف في المديريّة (مسلسل يوميّات مدير عام) ولأنّ راتبه لا يكفيه خمسة أيّام من الشهر. بأن يطلب من المراجعين، الأكلة التي تشتهر بها منطقتهم.

فالحلبي يُحضر له الزعتر.. وهكذا. لكنّ الرشوة لا يمكن تبريرها لموظّف كبير مثل الأستاذ ممدوح (نائب المدير) الذي لا تقلّ رشوته عن آلاف الليرات. كما يستقبل المزرعة..وغيرها! قمّة الفساد الأخلاقي، أن لا يُفرّق الإنسان بين “الخاصّ” و “العام”، فلو كان موظّفًا في دائرة حكوميّة. ذلك يعني أنّه مؤتمن على “العام” الذي يتشارك فيه الناس.

وهذا العام يقع تحت مظلّة الدستور والقانون. فمن يتعدّى على مساحة عامّة، كمن يرتشي، هي الجريمةُ نفسها. نعم لآنّ المرتشي، يرتكب مخالفة قد تحرم مواطنًا من حقٍّ يتمتّع به.

وللتبسيط أكثر، إليكم المثال المباشر: رئيس بلديّة إحدى البلدات، أعطى بائع جوّال، رخصةً ليفتح مطعم سندويشات على أحد الأرصفة، التي كانت تعجّ بالمارة. وهذا المرتشي، بسبب فساده أثّر سلبًا على حركة الناس في المدينة. كما حاول أبو نايف وأبو نمر وضع اسم الخربة على الخريطة. عبر تقديم الهدايا (بحسب تسمية جوهر) والرشاوى (بحسب تسمية جميل وملحم). وما يغفل عنه الراشي والمُرتشي، هو معرفة الحقوق، فمن يُدرك حقّه بالتفصيل لا يُفكّر قطعًا في الحصول على حقّه من خلال دفع المال ونشر الفساد.

الهدية هي تبادل مشاعر إيجابيّة مع أشخاص نُحبّهم، أمّا الرشوة فهي تبادل مصالح خاصّة شخصيّة مع أشخاص نفعيين فقط.

اقرأ أيضاً: لماذا يتمسّك بعض رجال الدين بالتنميط والتعميم – ناجي سعيد

زر الذهاب إلى الأعلى