ميلياغروس.. الشاعر السوري المنسي الفاتن عبر القرون
"ميلياغروس" شاعر سوري يفخر بإرث أجداده
يصنف الشعر على أنه أحد مظاهر التراث غير المادي للشعوب، وهو اليوم أحد أشكال التعبير وأحد مظاهر الهوية اللغوية والثقافية، مما يحدو الأمم الى توثيقه والاهتمام بملكاتها الأدبية، والتي قد تصل لاعتبارها الشعر أداة حوار وسلام بين الشعوب، لما له من قيمة إنسانية وحضارية.
سناك سوري – شاهر جوهر
وعلى ضوء هذه المبادئ اعتمدت اليونسكو يوم 21 آذار من كل عام فعالية ثقافية للاحتفال باليوم العالمي للشعر. ليكون بمثابة فرصة لتكريم الشعراء ولإحياء التقليد الشفهي للأمسيات الشعرية.
في هذا ينبغي الإشارة إلى الشاعر السوري “ميلياغروس” الذي لا يعرفه كثيرون، ذاك المنسي والفاتن عبر القرون، البسيط المنطوي على موسيقى شعرية تفرد بها وأورثنا إياها، الفينيقي المبتكر والمتجرد من الوطنية المحليّة الضيقة، المائل إلى المواطنة العالمية، العابث في صباه، المحزون على نفسه في آخرته.
اقرأ أيضاً: عبد الرحمن الشهبندر .. اغتيال التنوير المستمر – حسان يونس
قبل وفاته عام 60 ق.م أوصى أن يُكتب على قبره بضع كلمات، فجاء النحات “أربيوس الجداري” ليصنع ذاك النصب الجنائزي يوثق ما بات يعد من أعظم ما كُتب في الفلسفة الوجودية في العصر الهلنستي حتى اليوم. والتي هي خلاصة مشواره الفلسفي والشعري والصحوة العبثية طوال ثمانين عام:
أيهَّا المارُ من هنا إليك أقول: كما أنتَ الآن كنتُ أنا وكما أنا الآن ستكونُ أنت فتمتع إذاً بالحياةِ لأنك فان. فإذا كنت سوريا أيها العابر فقل عند قبري (سلام salam) وتقبل مني التحية التي يردها طيفي إليك.
عاش الهيليني السوري”ميلياغراوس”، شاعر الحب والأنطلوجيا، وأحد أتباع المدرسة “الكلبية” الأوفياء، في المرحلة التي امتزجت فيها الحضارة اليونانية بالحضارات الشرقية (ما بات يطلق عليه اسم العصر الهلينستي).
وطوال سنواته الشعرية لطالما كان يفخر بأصول آبائه وأجداده الفينيقيين. حتى بات رائد المدرسة السورية – الهلينستية بلا منازع وفق ما ورد في المصادر الفرنسية والإنكليزية على ما قاله المؤرخ والكاتب “إحسان الهندي”.
ولد في بلدة “أم قيس” (شمال غرب الأردن) من أم سورية وأب يوناني، والتي كانت واحدة من مدن سوريا العشر المعترف بها كمدن من قبل السلطات الرسمية، وبات يتكلم لغات منبته السورية الآرامية والفينيقية واليونانية. وهو ما دفعه ليكون شاعراً عالمياً في عصره.
اقرأ أيضاً: المهاجرون وفرض العقيدة على الغرب… حسان يونس
أصدر في “أم قيس” أولى مجموعاته الشعرية “ربات البهاء” والتي هي عبارة عن محاورات نثرية وشعرية هجائية تترجم أفكاره الفلسفية الكلبية. ثم انتقل إلى مدينة “صور” ليصدر كتابه الثاني “قصائد حب الشباب”، إذ تحدثنا هذه المخطوطة الشعرية عن عذوبة علاقاته العاطفية المتعددة وأوجاعها، والتي لا تخلو من اللهو والعشق، ورغم ذلك قضى حياته عازباً حتى وافته المنية وهو في الثمانين من العمر.
جاء في الإكليل: هل علينا أن ننتظر ظهور ذلك المصباح الذي يأمرنا بالإخلاد إلى النوم فلنشرب الكأس أيها العشاق فذلك الوقت ليس بعيداً وسنكون حزانى ومحبطين عندما يجب علينا الاستسلام لذلك النوم الأبدي
لكن قبل رحيله يعد كتابه الثالث “الإكليل” ذائع الصيت في عصره، أحد أهم كتب زمانه. والذي حاول أن يخلّد فيه أسماء ثمانية وأربعين شاعراً من الشعراء اليونانيين والهلنستيين وكذلك من الشعراء السابقين عليه والمعاصرين له، حيث قام في كتابه هذا باختيار قصيدة شعرية واحدة شهيرة لكل شاعر منهم، كما أورد في كتابه هذا نصوص 134 قصيدة من نظمه.
وتأتي أهمية هذا الكتاب على اعتباره كما يرى شعراء معاصرون أنه أول “أنطولوجيا شعرية” (وهي مجموعة من القصائد الشعرية المنتقاة والمنسقة)، حتى قيل أنه أول من ابتدع كلمة “أنطولوجيا”. ولا يقف الامر عند هذا إذ يصفه شعراء عرب معاصرون اليوم بأنه أشهر شعراء النسيب.
اقرأ أيضاً: الإلهة الأم في مواجهة الأحادية الذكورية- حسان يونس
رقد ميلياغراوس، محبطاً وحزيناً، لكن لازالت أشعاره تجوب العالم تملؤها بالحب والعطاء.