لم تكن فكرة المخيّمات الصيفية بدايةً لخدمة الأهداف التربوية. بل يمكننا الجزم بأن سبب نشأتها استعماري، فمن المعروف بأن النجاح العسكري الذي أحرزه الكولونيل «بادن باول» كان في فكّ الحصار عنه وعن رجاله. حيث اعتمد كليًّا على فتيةٍ صغار كانوا شديدي البراعة في استخدام الدرّاجات الهوائية، فكان يرسل معهم المعونات والرسائل من فرقة عسكرية محاصرة إلى فرقة أخرى خارج الحصار.
سناك سوري-ناجي سعيد
وبعد هذه الأحداث عمد الكولونيل “بادن باول” إلى تأسيس فرق فتيان تُدعى “الكشافة”، حيث كانت بدايتها خدمة الاستعمار. والحروب لغزو الشعوب. وقد خُدعت الناس بهذا الشكل اللطيف، المُغلّف بمبادئ “الشجاعة” و و و ..واعتماد الفتية الصغار. على أنفسهم ليتعلّموا ويواجهوا قساوة الحياة!. إلى أن تدخّلت الأنظمة السياسية وأسست الكشّافة لخدمتها.
الطبيعة مدرسة تعلّم، يستقي منها الصغار والكبار دروسًا بملء إرادتهم، وبحرّية تامّة. ولكن حين تتدخّل المؤسّسات والأنظمة تبدأ عمليّة “الأدلجة” التي تضع المُتعلّم في صندوق. يحجز حرّية الفرد للتفكير. فينطق هذا الصندوق الأيديولوجي كما قال الرحابنة: “..أنت ما تفكّر نحنا منفكّر عنّك..!”.
وردًّا على الحركة الكشفيّة التي أسّسها بادن باول عملت الدول الإشتراكيّة في أوروبّا وعلى رأسها الإتحاد السوفياتي السابق. على تأسيس ما يُسمّى بـ”منظّمة الطلائع”. وبنفس الأهداف السياسيّة. ولو اختلفت غاياتها لفرض الأهداف التي تلائم أنظمتها، إلاّ أنّها اعتمدت “الطبيعة” كقاسم مشترك.
اقرأ أيضاً: المُحاسبة – ناجي سعيد
فالهدف الأساسي، في أن يعتمد الطفل على نفسه، لمواجهة ظروف طبيعيّة تتّسم بالقساوة بعيدًا عن الترفيه. لم يؤسّس لمسار تعلُّمي يخدم إنسانًا يتوق للحرّية، بل كان الهدف اللامرئي هو أن يتعلم مواجهة الشدائد والصعوبات لخدمة الإستعمار!.
إن المخيّم الصيفي مدرسة طوعيّة، لا تُلزم بنظام دوام إجباري. يبدأ بالتوقيع على الحضور، وينتهي بقبض الرواتب. وما تفعله الجمعية التي أشارك بإحدى وُرشِها (مركز المعلومات العربي للفنون الشعبية- الجنى) هو مدرسة طبيعيّة غير نظاميّة، تكفل حرّية التعلّم ولا تفرض إلزاميّة التعليم على وزن التلقين.
ورش يتعلّم خلالها المشاركون مهارات وتقنيّات تكون حاجة مُلحّة لأناس يطمحون إلى تطوير قدراتهم لاستخدامها في مجالات عِدّة عمليّة وحياتيّة. لا يوجد نظام تقويم عنفي يُصنّف المشاركون في سلّم “ناجح وراسب”.. بل يكتسب الجميع المهارة والتقنيّة التي تُطوّر الأشخاص لينجحوا في أعمالهم وحياتهم.
المخيّم الصيفي تطوّر مع الحياة فلم تعد مدرسة حياة استعماريّة، بل مبدأها الأسمى هو “تعلّم تحرّر”! وهذه السنة طلب منّى صديقي مؤسِّس الجمعية المشاركة في ورشة، هي ليست تدريبية، بل يتبادل الأشخاص المشاركون الخبرات من خلال برنامج ابتكره الصديق “منير فاشة” حيث نال الدكتوراه من أهم جامعات أميركا (هارفرد)، ثمّ ابتكر فكرة تعلُّم انقلب فيها على الأنظمة التعليمية التي تخرّج ألقابًا يتقاذفها سوق العمل، ليؤسّس فكرة “المجاورة”.
يتجاور خلالها الناس من خلال العودة إلى ذواتهم التي بناها “الجدود والجدّات”، فيتبادلون ما تعلّموه منهم دون رقيب أو حسيب، سوى الذات العارفة، التي جعلها النظام التقليدي إلى ذوات “واهمة” (بحسب نظريّة فاشة)، فالتجاور الذي نعيشه يخلق ذاتًا “فاهمة” لا “واهمة”.
وأخلص علميًّا، لأن أؤكّد أن الفهم عمل العقل الذي يجب أن يستخدمه الإنسان، والذي حين يغيب عمله تُصبح ذاتًا واهمة. وقديمًا وقبل نشوء المدارس النظاميّة والتقليدية، كان الفلاسفة يستخدمون “المجاورة” دون أن يكون اسمها كذلك، فقد كان الفيلسوف المبتدئ، يذهب ليعيش مع الفيلسوف الذي يتبع فكره. ويتعلّم منه من خلال هذه المجاورة الطبيعية، والتي كانت تعتمد على المحادثة والمحاورة مع الفيلسوف لإستنباط نظرية جديدة دون أن يمرّ التعلّم بالكرّاسات الزائلة.
فالعلم كما كان يقول لنا أستاذنا الكيمياء: العلم في الراس مش بالكرّاس”! وهذه الطريقة تحاكي المهارات العمليّة أكثر من النظريّات، لتطابق ما يقوله الإمام عليّ: قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسنه.