كيف نصنع مأساتنا بأنفسنا – أيهم محمود
إلى ذلك الوقت سنظل ننجب أجدادنا بدل أن ننجب أولاداً ينجبون بدورهم أحفادنا
مازال رهان الرؤوس الحامية مركّزاً على التغيير السياسي، هذا التغير الحلم الذي يعشقه معظم السوريين إلا من استطاع النجاة من مأساة إعادة إنتاج أزمات مجتمعه. تغييرُ المن والسلوى الذي ينزل من السماء دون تعبٍ ودون جهد. لا يوجد تغييرٌ سياسي مفيد في حالة السوريين. لأن المشكلة لدى معظمنا هي في أنفسنا. والمشكلة أيضاً في عدم قبولنا وجود الأمراض المزمنة في منظومتنا الاجتماعية والفكرية. لذلك يذهب حالنا من سيءٍ إلى أسوء.
سناك سوري-أيهم محمود
عملياً وخلال السنوات العشر الماضية خرجت مناطق واسعة عن سيطرة الحكومة قبل استعادة بعضها، وبقاء البعض الآخر خارج السيطرة الفعلية. ومع ذلك لم نشاهد أي خطوة تغيير اجتماعي يمكن التعويل عليها. بل رأينا بوضوح إعادة إنتاج للنظام الاجتماعي القائم بألوان خارجية مختلفة لكن الجوهر والمضمون واحد.
لا أحد يمنع قاضياً من الحكم بالعدل خلال فترة زمنية قصيرة بدل جعل القضية تستمر في المحاكم سنوات وأحياناً عقود. لا أحد يمنع السوريين من الالتزام ببعض القوانين العامة كعدم إشغال الأرصفة بسياراتهم الخاصة بينما يطارد المجتمع فقيراً صاحب بسطة صغيرة. لأنه يستغل الملك العام.
الجميع هنا مشاركين في هذه الظاهرة على اختلاف توجهاتهم السياسية والعقائدية وربما معظمهم يتفق مع ضرورة ملاحقة فقراء البسطات على الأرصفة. ليتسنى له وضع سيارته بدلاً من بسطاتهم الصغيرة. عندما يموت طفل أو يدخل المشفى لأنه لم يجد رصيفاً يمشي عليه فمشى في الشارع، لا يحاسب المجتمع نفسه على الضرر الذي أصاب هذا الطفل بل يتجاهل الأمر ببساطة. أو يقول أن هناك مؤامرة خارجية، أو ربما نظام حاكم يظلمنا وعندما نغيره ونصبح نحن في السلطة بدلاً عنه سينزل الخير على الجميع ويتوقف هذا الموت المجاني!.
الأمثلة أكثر من أن تُحصى على الخراب الثقافي والمجتمعي وربما الأخلاقي، والأخلاقيُ هنا يختلفُ جداً عن أخلاقيات مطاردة الساحرات اللواتي يطرن فوق مكانس المجتمع السوري. يختلفُ جداً عن ملاحقة نوع ثياب الأنثى، أو مطاردة رجلٍ يجلس هو وصديقته في مكانٍ عام.
الأخلاق التي نتحدث عنها التزامٌ صارمٌ وحقيقي بحق الفئات الضعيفة في المجتمع. سواء كان ضعفها اقتصادي، أو اجتماعي نتيجة سيطرة الأعراف والعادات البالية، ضَعفُ الفقراء في مجتمعٍ لا يرحم. وضعف الأطفال، وضعف النساء في ثقافةٍ تعتقل حركتهن حتى تكاد تقتلهن عملياً في بعض الأماكن.
اقرأ أيضاً: الاستقالة من العبودية في العالم الموازي – أيهم محمود
لا يمكن لي التخيل أن الذي لا يهتم اليوم لحياة طفل صغير يذهب إلى مدرسته ويضطر للسير بين السيارات في الشارع لإنشغال الرصيف. بسيارة المعترض السياسي، سيتغير سلوكه العام في يومٍ من الأيام إن أصبح مسؤولاً يملكُ سلطة. أحزابنا السياسية والمجتمعية تعدنا بالخيال والأحلام، بعضهم يظن أن البطش والسجون يحل كافة المشاكل المزمنة في المجتمع. لا أعلم ماهو نوع عنف الدولة الجديد الذي يستطيع تحقيق هذه المعادلة العجيبة والذي لم نجربه بعد!. لم يكفي السوريين عقوداً، بل وقروناً من الاستبداد السياسي والديني؟ ليراهنوا بكل هذه الثقة الفائضة على نوع جديد من الاستبداد يحل جميع مشاكلهم بطريقة سحرية.
في ذاكرةٍ قديمة ذات دلالةٍ شديدة سمعتها من مديرة لمدرسة ابتدائية بين نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن المنصرم. استدعت المديرة والد أحد الطلاب لتخبره عن سوء وضع ابنه الدراسي وضرورة متابعته منزلياً والاهتمام به أكثر. وعد الوالد بحل مشكلة ابنه جذرياً، وبالفعل حضر الوالد والولد في اليوم التالي. وكانت هناك حروق على يدي الطفل بواسطة قضيب حديد مُحمى. لقد حل الوالد المشكلة! وأصبح الطالب طيعاً قابلاً لفهم دروس الرياضيات!.
إن استطاع الوالد حرق يدي ابنه وتعذيبه وهو قطعة منه، فكيف سيتصرف مع معتقل سياسي إن كان هو سجانه
أيهم محمود
إن استطاع الوالد حرق يدي ابنه وتعذيبه وهو قطعة منه، فكيف سيتصرف مع معتقل سياسي إن كان هو سجانه، كيف سيتصرف مع إمرأة معنفة. أو مع مخالف ديني لا يطيقه ولا يطيق حتى رؤيته. قد تبدو هذه الحالة استثنائية ومتطرفة في المجتمع السوري، وقد يظن البعض أن الاستمتاع بحصة مضاعفة من الماء والكهرباء على حساب جاره في الحي المجاور أو في مدن أخرى. أو منع الأطفال من استخدام رصيف، أو تعطيل قضايا الناس في المحاكم وبقية إدارات الدولة، أو التهرب من دفع الضرائب، أو الغش في البضائع، أو التهرب من العمل، أو تعميم الجهل، وغيرها من السلوكيات البريئة!، أقل وحشية بكثير من حرق يدي طفل، قد يظن البعض ذلك.
مع أن الحرق يُشفى خلال أيام أو أسابيع وهو قد طال فرداً واحداً في المجتمع، أما حروق الثقافة والعنصرية والتعالي على البشر فتصيب الملايين. تقتل الملايين على الأقل نفسياً. سقط العشرات غرقاً في أحدث قصة قارب موت ولن تكون آخرها، تبادل المجتمع الكريم قذف الاتهامات بسعادة. لا أعلم كم سوري وقف أمام مرآة منزله ونظر إلى وجهه وسأل نفسه عن حصته ومسؤوليته الأخلاقية في موت هؤلاء؟!، عندما نسأل أنفسنا عن موتهم يمكن أن نفكر لاحقاً في نوع التغيير السياسي المطلوب، وإلى ذلك الوقت سنظل ننجب أجدادنا بدل أن ننجب أولاداً ينجبون بدورهم أحفادنا.
وبالمحصلة إنني لا أعطي الطبقة السياسية صكوك البراءة من الواقع ولا أحمل المجتمع كله ووحده المسؤولية، بل أرى أن التغيير المجتمعي يصنع التغيير الإيجابي في البلاد وليس العكس. وهذا التغيير يحتاج مشاركة واسعة ولا يكفي وجود أقلية هنا وهناك تؤمن به وتلتزم به.