الرئيسيةرأي وتحليلسناك كورونا

كورونا ومقاومة مكمن العنف – ناجي سعيد

هل يمكن لشعبنا أن يلتزم “الحَجر” لمواجهة الظلم الطبيعي الصحّي؟

سناك سوري – ناجي سعيد

كتب الروائي تولستوي في يومياته في أبريل (نيسان) عام 1910: “وصل اليوم اثنان من اليابانيين، سِمَتهما البراءة يشعران بالسعادة أمام الحضارة الأوروبية، ورسالة وكتاب من هندوسي، يعبّر عن فهم كل نواقص الحضارة الأوروبية، وربما كل خطاياها، قرأت مساءً ما كتبه غاندي عن الحضارة. رائع ومهم جداً”.

الصور السائدة عن الغرب، وتحديدًا المُتمثّل بأوروبا، أنها في قمّة الرقيّ والتحضّر. وقد ساهم في صنع هذه الصورة أحلام الشباب الضائعة في البلدان العربية كافةً، فحين تسأل أي شاب عربي ما هو حلمك وطموحك، يجيبك فورًا دون تردّد: الهجرة إلى أوروبا. وهذا الحلم ليس سوى ردّة فعل على القصور المُدقع في تقديم الدولة الحقوق والواجبات لكل مواطن.

ومن المُستغرب أن ينتقد أحدًا هذه الحضارة الأوروبيّة. فتقدّمها ورقيّها قائم على نواقص الآخرين. وقد لفتني في المراسلة بين غاندي وتولستوي ما ذكره الأخير في يومياته، عن وصول إثنين من اليابان يشيدان بالحضارة الأوروبية، والهندوسي الذي يعبّر في ما كتب عن نواقص الحضارة الأوروبية. هل يجوز أن يحمل الشاب العربي حلمّا “ناقصًا”؟.. “على قدّ بساطك مدّ.. حلمك”.

اقرأ أيضاً: العقل والعقلانية في التصرّف أثناء الأزمات-ناجي سعيد

ومن ذا الذي يجرؤ على الكتابة عن النواقص في هذه الحضارة الأوروبية؟ لابدّ أن يكون صاحب فكر ما، والفكر هو التمهيد لتأسيس دولة تحترم حضاراتها وتراث شعبها. فليست حضارة الهند كما يردّد الجهلة ويختصروها بفكرهم الضيّق بأنهم “عبدَة عجول”. فالناس لا تعلم شيئاً عن الحضارة الهندية، وليدة الفكر البوذي والهندوسي، ففي أدبهم يعرفون مصطلح أهيمسا،  وهذا المصطلح في اللغة السنسكريتيّة. وهو يرمز إلى مفهوم البراءة وغياب نيّة الأذيّة للآخر. وقد تُرجم عمليًّا هذا المصطلح إلى سلوك بشري، حيث إقتدى الشعب الهندي بأكمله بسلوك غاندي. ولم يكن الشعب الهندي عامةً متعمّق بفلسفة اللاعنف ليحقّق انتصاره ويطرد المُحتلّ الإنكليزي، بل كان يمتلك نيّة رفض الظلم، وتحويل هذه النيّة إلى سلوك ليس سهل. بل من الخطر تحويل هذا السلوك بشكلٍ خاطئ، يؤدّي إلى عنفٍ يولّد عنفاً وهكذا إلى درجة إلغاء الإنسان.

“وفي «رسالة إلى هندوسي» تحدث تولستوي عن الطغاة والمقهورين، وقال إنه ما من شيء أكثر وضوحاً من أن الرغبة في إقناع الشعوب الهندية بأشكال الحياة الأوروبية لا تعكس وعياً دينياً لدى القادة الهنود حالياً. وغياب الوعي الديني والإرشاد السلوكي الذي يجب أن ينبع منه، هو نقص شائع في يومنا عند شعوب الأرض كافة شرقاً وغرباً، وهو بمثابة السبب الرئيس، إن لم يكن الوحيد، لاستعباد الشعب الهندي بواسطة الإنجليز.”[ii]

وتحدث صاحب رواية «الحرب والسلام» عن العنف والاستسلام له، ودعا الهنود إلى رفض جميع أشكال الخضوع للإنجليز، بما فيها الاشتراك في «الجندية»، وذكر أن ذلك هو السبيل الوحيد للخلاص من عبودية بريطانيا.

اقرأ أيضاً : الرفض بصيغة القبول-ناجي سعيد

ويوضح الكتاب الذي ضمّ الرسائل المُتبادلة بين غاندي وتولستوي واهتمّ بجمعهم في كتاب، المؤرخ والأثري الروسي ديميترييفيتش تشيرتاكوف، أن تولستوي، المُهتم دائماً بالهند وعلاقاتها الاجتماعية، وصراعها مع الحكم البريطاني، والفلسفة والديانة الهندوسية، تبادل في سنواته الأخيرة الرسائل مع عدد من المفكرين والمناضلين الهندوس، وبشكلٍ رئيسي مع قادة الحركة الثورية. وذلك قبل سنتين من خطاباته مع غاندي، لكن من بين جميع الهندوس الذين تراسلوا معه، اعتبر تولستوي أن غاندي هو الأقرب إليه من الجميع.

وقد كشف الكتاب كيف تبادل الرجلان الأفكار بشأن النضال السلمي. فبداية اللاعنف ترتكز على نيّة رفض الظلم. وهي لا تكفي بالطبع، حيث يكتمل مفهوم اللاعنف بمقاومة نيّة العنف من الطرف المُعنِّف الظالم. فمن ضمن مرتكزات اللاعنف مقاومة مكمن العنف لدى الظالم، وتعطيل فعّالية سلاح العنف. فلو اعتمد الظالم على ردّة فعل المظلوم، يكون توقيف “ردّة الفعل” هو السلاح الفعّال للحدّ من العنف. فردّة الفعل تأتي من جنس الفعل نفسه. لذا يجب أن تكون المقاومة اللاعنفية بعيدة كلّ البعد عن “ردود الفعل”.

وشرحي لهذه العملية البيولوجية (أعطيه بالورشات التدريبية للناشطين) بأنّ لو كان الفعل حائطًا، سيكون ردّ الفعل حائطًا ملاصقًا له، وهذا الواقع. أمّا الفعل اللاعنفي فيأتي على شكل فعل (لا ردّ فعل) مقابل الفعل وجوابه العقلاني، وهو ينبع من المنطقة غير المرئية الواقعة بين الجدارين (الفعل وردّ الفعل)، وهذه المنطقة تُدعى “الإدراك”. وهو العملية العقلية التي تساعد الإنسان على فهم أسباب الفعل وتحليلها وإيجاد الجواب المناسب قبل إطلاق الجهاز العصبي ردّ الفعل دون تفكير، وتخيّلوا ثقافة الشعب الهندي لفهم “إعتباطي” فعّال لهذه العملية، وصل بهم إلى التحرّر من الظلم وطرد المحتل.

وأخيرًا، هل يمكن لشعبنا أن يلتزم “الحَجر” لمواجهة الظلم الطبيعي الصحّي؟ مع العلم بأن القرار فردي وليس جماعي، وهو نافع حتّى لو كان “فردي/فردي/فردي/فردي…” وليس جماعي.

[ii] مقال ل حمدي عابدين نُشر في الشرق الأوسط

اقرأ أيضاً: الرفض بصيغة القبول_ ناجي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى