الرئيسية

أمهات ريفيات فقدن أبناءهن: قصص لا يصدق أنها حدثت في بلادنا (بالأسماء والصور)

عن كمية الألم والوجع.. عن العيد المنتظر عيد وأد الحرب وثقافته وأد العنف وسلوكياته!

في حرقة وشوق وألف وجع ترقب الأمهات الريفيات أبناءهن ولا قدرة لهنّ على نسيان من فقدن. من ذُبحوا بلا سبب وبلا ضمير.

سناك سوري – شاهر جوهر

عن ”فيضة“. عن ”أم حسين“. ”أم جهاد“ و”لطفة“ نتحدث. عن اللطيفات. الصابرات والمحتسبات من لم يتعلمنّ يوماً حرفاً ولم يدخلنّ مدرسة. لكنهن علمننا الحب. الصبر. ومعنى القهر. وأين يكمن الله في قلب كلٍّ منا.

قهراً سمعت ”فيضة“ الإمراة الستينية أن ”موسى“ قد قُتل ولم تتمكن من رؤيته. لم تبكِ. ولم تصرخْ. لم تنحْ. ولم تمزق ثيابها لرحيله. قالت كلمتين فقط. هما كل هذا العجز في هذا الكوكب. «قدّر الله وما شاء فعل». توجعت لباب بيتها ونامت (توفيت).

في الصباح لم تغسّل. ولم تكفّن. وانما سيقت إلى قبرها كشهيدة. «من صبرت واحتسبت شهيدة. الجنة مآواها بإذن الله». هذا ما قاله جيرانها في ريف القنيطرة الجنوبي حين شيعوها لمثواها الأخير.

في الوقت الذي كانت فيه ”فيضة“ قوية لتختار موتها بصمت. في مكان آخر كان هناك من يموت ببطئ. من يتمنى الموت ولا يجده. ذاك التمني الفعلي الذي لا تفهمه الحرب. فمن هو أسوأ حالاً من أم كـ”أم حسين“ (من ريف درعا الغربي) التي تحسد كل من مات في هذه الحرب. «من مات ارتاح». بهاتين الكلمتين ترد كلما سمعت مكبّر المسجد ينعي أحدهم من أبناء بلدتها. تذوي رأسها المثقل بالهموم وتحدج الأرض. لعلها تخفي دموعها الكريمة عمّن حولها. لأن كل شيء حولها يذكرها بـبكرها ”حسين“ وبـآخر أبنائها ”سعد الدين“.

«كان حسين يعزف على الشبيبة حين يقام فرح في البلدة. ويمسك برأس الدبكة هو وسعد. كنت أنا وأبو حسين نتنومس لمّا نشوفه. يا ليتني متت وما شفتهن غرقانين بالدم». تقول ذلك ”أم حسين“ بلهجة بدوية جنوبية جميلة بجمال الوشم الذي زيّن جبينها. تقول ذلك وفي قلبها ألف غصة وغصة لفقد ابنيها. ”حسين“ الذي قتله مجهولون عام 2016. و ”سعد“ الذي مزقه لغم فراغي حين كان يحرث أرضه بعدها بعام.

اقرأ أيضاً: آخر رسائل الجنوب – شاهر جوهر

في الجنوب هناك ألف ألف طريقة لتموت. ولتبكي الأمهات. إذ لا يخلو حيّ فيه أو حارة أو منزل أو زاوية صغيرة من أم فقدت إبنها. ففقدهم يوجع الامهات. يعذب القلوب المتعبة. ويزيد من هذا الحقد على الانسانية. وعلى الحرب وثقافة الحرب والعنف.

تختصر هذا ”أم جهاد“ (من مواليد 1947 من بلدة سكوفيا في الجولان المحتل). تختصر كل ذاك العبث الروحي بالقول: «ما بحس بالوجع إلا صاحبه». هذا ما كررته في حديثها لـ”سناك سوري”. فهي تعي الوجع الذي خبرته ”فيضة“ و ”أم حسين“ من فقد الأبناء والأحبّة.

أمهات ريفيات
الحاجة “أم جهاد”

”أم جهاد“ التي عاشت حربين. ونزحت مرتين. المرة الأولى سنة 1967. وفي المرة الثانية والثالثة والرابعة والعاشرة تركت منزلها مراراً من عام 2013 حتى 2018 حين عبثت الشياطين في بلادنا. فكان للنزوح طعم المرارة. اليوم في عيدها تنتظر ابناً أخذته الحرب. وآخر لاجئ. وثالث مثبور على حاله.

بكت ”أم جهاد“ أمامي. فلعنت في داخلي ألف ميت وحي كان سبباً لبكائها. ولعنت نفسي بتكرار أني حركت حزنها. جاهدت في إكمال هذا التقرير معها. لكنها ذبحتني حين قالت: «يا ريت ضميتو قبل ما يروح».

هنا عضّت على يدها المتخشبة من العمر جاهشة في البكاء. تبلل خديها المتهدلين بالدمع. تقطّع نياط قلبي لعويلها. دسست دفتري وقلمي بجيبي. قبلتها على جبينها المجعد وحاولت مواساتها ومساعدتها نسيان ابنها. لكن كيف لي أن أساعد أماً لتنسى فلذة كبدها.

اقرأ أيضاً: حين أصبح “الفقر” رجلاً لجأ إلى ألمانيا!

تركتها لأن هدأت. ثم أكملت عملها تقطع أوراق “الخبيزة” وتحضر الغداء. وحين رفع المؤذن صوته بالآذان تذكرت ابنها مازحة «كانت صلاتي لا تعجبه. كان يضحك بصوت عالٍ حين يسمعني أقرأ الفاتحة التي علّمني حفظها مطوّلاً. فكل ما أحفظه من القرآن أردده في صلاتي. أنا امرأة كبيرة في السن لم أدخل مدرسة في حياتي والله لن يؤاخذني إن كنت أخطأت في ترتيل سورة الفاتحة. لكنني أحفظها».

وحين طلبت منها تلاوة سورة الفاتحة أمامي. ضحكت كثيراً وقالت: «مديت عباتي. وصليت صلاتي. إسم الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. نستعين. يوم الدين. الله أكبر عالظالمين. ولا الظالين. آمين».

حين انتهت سألتني بعفوية: «أليست هي الفاتحة؟» ضحكت وقلت لها نعم إنها أجمل فاتحة أسمعها في حياتي.

أمهات ريفيات
الحاجة لطفة

بعيداً عن ”أم جهاد“ وفي مكان قريب آخر في منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي. تجلس الثمانينية ”لطفة أم زيدان“. فقدت زوجها هي الأخرى بعد سيطرة تنظيم داعش على بلدتها (جَملَة) التي هي مركز التنظيم في ريف درعا الغربي. وهاجر ابنها عيسى إلى كندا مع أبنائه في حين رفضت هي الخروج من منزلها: «كيف أطلع من بيتي وأبو عيسى مو هون. ما بطلع لالحقوا عالقبر. بس قلبي مشتاق كثير لعيسى. قلتلوا يا يمّا وين بتصير كندا. بعيدة عن جَملَة؟ قلي يا يمّا مو بعيدة كثير. تقريباً من بيتنا لمفرق عمتي حسنة روحة رجعة أربع مرات. بس ما فيني أجي لأن في بيني وبينك بحر)».

وكباقي الأمهات الريفيات الطيبات اللاتي فقدن أبناءهن للموت أو للمهجر. تراقب لطفة مفرق حسنة و تدعي في سرها أن ينشّف الله البحر. تدعي لعيسى من قلب ملؤه الشوق لعل الله يجمع الشتيتين بعدما فرقتهما الحرب.

اقرأ أيضاً: 21 آذار يوم دسم هذا العام على “الفيسبوك” عيدين بيوم واحد!

*تم تمويه الصور بناءً على طلب الامهات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى