إن تغيير الهويّة أو جزءًا منها يُنتج مشاكل تصل إلى حدّ العنف في مجتمعاتنا الشرقية وحتى في معظم المجتمعات حول العالم. ولو تعمّقنا في تفسير معنى “الهويّة”، لأيقنّا أنّ التحدّيات تكمن في الجزء المُتعلّق بالإنتماء وهو الجزء الأعمق من الهويّة، وخاصّةً بأن القلب والعقل يُحكِمان السيطرة على هذا الجزء.
سناك سوري – ناجي سعيد
كنت استخدم أثناء التدريب للشباب والناشطين (طبيعة عملي) رسمًا توضيحيًّا، أطلقتُ عليه اسم “دوائر الإنتماء”. فأصغر دائرة في الوسط تُشكّل مساحة “الأنا”. ونبتعد من الضيِّق إلى الأوسع.. العائلة/ الأصدقاء/الدين/ الطائفة/ المذهب..المجموعة الشبابيّة/ الحزب…/ الإنسانية. وهي الدائرة الأوسع التي تشمل كلّ الإنتماءات وتحتويها.
وحين حدثني أحد المتدربين مؤخراً عن تغيير الهوية الدينية والضغوطات التي يواجهها الإنسان الذي يغيرها وتصل حد العنف الجسدي. خطر ببالي هذا النوع من التدريب الذي كنت أُنفّذه، فالدوائر مترابطة ومتسلسلة، ويمكنم أن تتخيّلوا السلسلة المترابطة، إذا ما غيّرنا جزءًا منها. وتعرّض هذا التغيير إلى رفض عنيف من المقرّبين؟ فنكون قد كسرنا أو اقتطعنا إحدى تلك الدوائر. حينها تتعرّض السلسلة للخلل.
اقرأ أيضاً: أنا نباتي وأفتخر – ناجي سعيد
والخلل لا يأتي إلاّ بالعنف، فالتغيير وارد وطبيعي. مهما اختلفت الأسباب والدوافع وراء هذا التغيير( نفسيّة/ عائليّة/ مجتمعيّة/ دينيّة..). فمن ينشأ ويتربّى في كنف بيئة حاضنة، يأمن ويطمئنّ لهذه البيئة. وهويّة الإنسان الدينيّة هي جزءٌ من هويّة الإنسان. وقد تكون عبئًا على أي شخص إذا ما كان مُرغمًا على اعتناق فكرة أو سلوك أو مبدأ أو ما شابه بالإكراه.
ومما صادفته أثناء عملي، أن تعرّفنا بصبيّة (كانت ناشطة بالفريق معنا)، وقد كانت ترتدي حجابًا، فرضه عليها بالقوّة والدها، دون أن تقتنع بملء إرادتها(كان من الممكن ان تكون هذه الصبية متدينة ووالدها علماني فرض عليها نزع الحجاب). وقد اتّخذت القرار بخلع الحجاب، والقرار نابع من تملّك الجرأة لمواجهة العنف. فإمّا أن تخلع الحجاب وإمّا تترك المنزل، هكذا هددت والدتها!! فما كان من والدها إلاّ أن وافق.
الهوية الدينيّة هنا، حين تكون مغلّفة بالعنف، لا بدّ من تغييرها. وليس هذا تحريضًا، لا بل لألفت النظر بأن الهويّة الدينيّة التي يعتنقها أي شخص، تخفي وراءها حقيقة: “الحاجة إلى الإيمان”. فهذه حاجة بشريّة لا مفرّ منها. حتّى من يعلن بأنّه “ملحد”، فلا بدّ من إيمانه بما يعتقده سببًا لوجود العالم!! أو فلنقل هو مؤمن بفكرة الإلحاد.
غالبًا ما يستغلّ العنف والشرّ ضعف الإيمان لدى أفراد كثيرة تلتقي لتشكّل جماعات وتتناحر فيما بينها. وتخويفها من الآخر مُستند على ضعف إيمانها..بهويّتها.
اقرأ أيضاً: عيد الأضحى والذبائح .. ماذا لو كان لا عنفياً؟ ناجي سعيد
ولو غصنا في الحديث عن التغيير (المُحقّ) للهويّة الدينيّة، والذي يُقرّره الإنسان بعد تعرّضه للعنف اليومي الأُسري. والمشكلة الأساس هنا ليست تغيير الهويّة الدينيّة، بل هي استخدام العنف في التعامل مع الإختلاف الحاصل بعد هذا التغيير!. فالسلوك العنيف ينتج عن تفكير مبني على ثنائية الأقطاب (أنا والآخر).
حيث يكبر الخوف من الآخر، لينزوي كلّ شخص في مساحته الآمنة فكلّما ساءت هذه المعاملة من الآخر نجد “الأنا” تصارع لإثبات وجودها.
وهناك طريقتين شائعتين لمواجهة الاختلاف، إمّا المواجهة بعنف وإمّا الهروب والإنضواء تحت خيمة الهويّة الجماعيّة، والتسليم لقرار الجماعة الذي لا يخلو من العنف (باستثناء تجربة الشعب الهندي والشعب الباكستاني).
اقرأ أيضاً: السعادة – ناجي سعيد
وهذا ما نجد له صدى في أعمال الفيلسوف وعالم الاجتماع الهندي “أرجون أبادوراي” في كتابه “الخشية من الأعداد الصغيرة”، حيث يعتبر الكاتب أن الجماعات الهويّاتية تتحوّل إلى جماعات مفترسة بمقتضى التنميطات المتبادلة التي تمارسها الجماعات الدينية والعرقية والمذهبية على بعضها البعض. فعملية التنميط ووضع اللافتات التي تشيطن الآخر وتلبس الذات ثوب الملاك، وذلك من قبيل تأسيسها لمنظومة متكاملة من الادعاءات والصور النمطية ضدّ الجماعات الأخرى.
إن المشكلة التي تواجه الهويّة هي التعامل مع المختلف. لذا كان كتاب “أمين معلوف” الهويّات القاتلة. فالهويّة تشبه السكّين، فمن الممكن أن نقتل بها، ومن الممكن أن نقطع التفاحة ونأكلها..لنستفيد! من يريد أن يغيّر هويته (الدينية، الثقافية…إلخ) ، فهو يأكل العنب، ولا يريد قتل الناطور. فالأسباب النفسيّة لتغيير الهوية لا يلغيها العنف، بل يرمي البنزين على حطب المجتمع الآمن.
ولكي لا تكون هوياتنا “قاتلة” فليكن شكلها ومضمونها “الحب”. حب ما نؤمن به، وحب الآخرين.