صناعة العجز- أيهم محمود
لماذا تستطيع المناطق النائية في الهند صناعة أدواتها اليدوية البسيطة بينما لا يستطيع السوري غير انتظار الفرج من السماء؟
سناك سوري- أيهم محمود
لدي رؤية خاصة، عصر النفط سينتهي مخلفاً وراءه فجوة يصعب ردمها بالطاقات البديلة، لذلك انتقلتُ منذ سنواتٍ عدة للتفكير بكفاءة الاستخدام الأمثل للطاقة المتاحة لنا، كل المصنوعات التي تحتاجون إليها في حياتكم اليومية تحتاج الطاقة لتصنيعها وتشغيلها أيضاً، استهلاكُ طاقةٍ احتاجت الأرض ملايين السنين لتجميعها خلال بضع عشرات من السنوات منحنا وهم القوة ومنحنا أيضا ثقافة احتقار العمل: فالطاقة شبه المجانية سوف تقوم بكامل العبء عنا.
في الأزمة السورية فهمنا معنى عجز الطاقة وفهمنا أيضاً أن كل الأدوات التي بين أيدينا هي قطعٌ ميتة دون وجود الطاقة اللازمة لتشغيلها وعلمنا أيضاً أن الأبنية المرتفعة -أبنية دبي كما يحلم بعضنا بها وما يزال يحلم- هي مقابر حقيقية دون وجود طاقة كافية لتشغيلها، تكلفة إنشاء الأبنية نفسها عالية جداً من منظور الطاقة اللازمة لتصنيعها وتصنيع موادها وإدارتها، كلفة إعادة الإعمار باهظة الكلفة من ناحية الطاقة اللازمة لها وقد لا تتوفر لنا في ظروف جنوح الثقافة السورية إلى انتظار الفرج من السماء بدل العمل على تجاوز أزماتنا بحلول بسيطة غير مكلفة.
قررتُ أن أعود إلى أرضي الزراعية، أن أهجر المدينة وأؤسس مشروع زراعي صغير يستطيع أن يؤمن معظم احتياجات أسرتي الغذائية بشكل مستدام ولكي يكون المشروع قابلاً للتطبيق على مناطق واسعة يجب علي (عدم) الاعتماد على الطاقة الكهربائية رغم قربها النسبي من منطقة مشروعي لأن بقية المشاريع ليست كذلك ويجب علي تقديم نموذج عام وليس خاصاً بظروفي الشخصية، الغاية الرئيسية للمشروع هي العودة إلى أنظمة البناء بالمواد المحلية لكن وفق حسابات نظرية حديثة وهذا من صلب اختصاصي في الهندسة المدنية.
اقرأ أيضاً: المنظومة العلمية وإغواء الشهرة_أيهم محمود
التوفير في الطاقة اللازمة لإعادة الإعمار في حال التخلي عن المواد البيتونية والمعدنية يمكن أن يكون هائلاً إن ساعدنا نمو العمارة التقليدية في مواقع الإنتاج الزراعية بدل التكتل في القرى التي أصبحت مشابهة للمدن من حيث احتياجات الطاقة والعجز الغذائي فإنتاج القرى من الغذاء أقل من استهلاكها له وبالتالي هي عبء على النظام العام بدل أن تكون شريان الحياة فيه، لكل منطقة مناخية في سوريا شروطها ومحدداتها الخاصة، أنا أسكن في المنطقة الساحلية حيث الكثافة البشرية عالية وكذلك انتشار المياه، يمكن الانتقال للاستقرار في الأراضي الزراعية بمنازل صغيرة تقليدية في ظل انتشار الاتصالات في كل مكان وإمكانية تأمين طاقة كهربائية بسيطة لأدوات الاتصال والتعليم عبر الانترنت بواسطة الألواح الشمسية أو عبر مشاريع طاقة متجددة تكافلية تخدم مجموعة مزارع مع الأمل بوجود قوانين لاحقة تسمح بربطها بالشبكة الكهربائية العامة لتصدير الفائض إليها واستجرار احتياجات المزارع في فترات نقص الطاقة مثل الفترات المسائية في حالة الألواح الشمسية على سبيل المثال، نحن لا نتحدث هنا عن طاقة كهربائية لاستخدامها في الطهي وتسخين المياه والتدفئة فهذه تقضي على فكرة المشروع كلياً نحن نتحدث عن طاقة بسيطة تكفي لحفظ الطعام وشحن أدوات الاتصال وتشغيل الحواسب واستمرار التعليم، ما تبقى من الطاقة اللازمة للحياة يجب تأمينه محلياً من المواد الطبيعية المتوفرة ومن طاقة العمل الإنساني وهذا يتطلب تغير ثقافي قاسي في حياة السوريين وانتقالهم من حالة احتقار هذا النمط من الحياة إلى حالة احترامه فهو ليس فقط السبيل الوحيد لخروجهم من أزمتهم الحالية بل هو التدريب المستقبلي القريب على النجاة من أزمة طاقة سوف تعاني منها الكرة الأرضية كلها وليست سوريا فقط، عالمنا الحالي بصورته التي ألفناها يتجه إلى انهيار محتّم لا سبيل إلى تفاديه.
تستطيع البشرية التخلي عن الكهرباء لكنها لا تستطيع التخلي عن الماء فهو سر استمرار حياتها لكن استخدامه بالشكل الذي نستخدمه فيه حالياً يعدنا في سوريا بمستويات وفيات غير مسبوقة فالجفاف والتصحر في ازدياد وعلى سكان المنطقة التكيف عددياً مع الموارد المتاحة والانتقال إلى أساليب زراعية تستخدم كميات أقل من الماء والطاقة لكي نضمن بقاء أكبر عدد ممكن من السكان على قيد الحياة دون حدوث اضطرابات اجتماعية قاتلة مثل تلك التي حدثت في السنوات الماضية والمستمرة حتى الآن.
اقرأ أيضاً: الهروب السوري الكبير من المسؤولية_ أيهم محمود
لكي أعود إلى محددات تجربتي الصغيرة يجب أن أبني منزلاً صغيراً باستخدام التراب وجذوع الأشجار ففي منطقتي لا تتوفر الحجارة الصالحة للبناء، يمكن استخدام برامج هندسية نوعية متقدمة لتطوير مثل هذا النوع من البناء، الأمر الثاني أحتاج استخدام المياه المتوفرة طبيعياً دون استنزاف طبقة المياه الجوفية في أعمال ري واسعة وحرمان جيراني وحرمان نفسي مستقبلاً من إمكانية الاستمرار في مشروعي الصغير، يفكر السوريون بشكل فردي وهذه عملية خطرة وكارثية، يجب العودة إلى فكرة أن النجاة جماعية وليست خلاصاً فردياً، لذلك قررت البحث عن أداة بسيطة هي مضخة ماء يدوية من بئر ارتوازي صغير موجود في المزرعة، هذه المضخة مصنعة في أمريكا وفي الصين والهند وسعرها العالمي يتراوح بين ١٠٠ و ٣٠٠ دولار، لا يشعر الأمريكي أن عليه عدم صنعها لتوفر الكهرباء لديه بل يصنعها ويصنعها الهندي والصيني أيضاً ونحن نحتقرها لأنها تعمل بالطاقة البشرية، رأيت أدوات يدوية تصنعها الهند لفصل حبوب القمح عن السنابل، شعوب حية تصنع أدوات الإنتاج البسيطة ولا تكتفي بالعجز والتمني.
بحثت عن مضخة يدوية كانت متوفرة في الثمانينيات من القرن الماضي فلم أجدها في الأسواق، حسناً لن أستسلم سوف أصنعها هنا بدل انتظار الاستيراد، أخيراً وبعد بحث طويل ومساعدة الأصدقاء في الفيسبوك وجدت مكان ورشة كانت تصنعها وبعد الحديث مع مالكها قال أنه كان يصنعها فعلاً لكنه الآن عاجز عن تصنيعها فبعض القطع غير متوفر ومنها جلدة تمنع تسريب المياه في أحد القطع المتحركة وهنا بيت القصيد وهنا مأساة العقل السوري، في قصة مشابهة سابقة قمت بتبديل قلب صنبور المياه من أجل حلقة صغيرة تصدأ لأنها ليست من النحاس، حلقة كانت قديماً بليرة سورية واحدة أو حتى أقل أضطر بسببها إلى استبدال القلب كله ولو كان صناعة محلية لسامحت ربما فكرة هدر الطاقة اللازمة لتصنيعه واضطراري إلى رميه بسبب قطعة صغيرة كنا في فترات سابقة نصنعها، لكننا الآن نستورد كل شيء وإن صنعنا بعض أدواتنا محليا نتوقف عاجزين عن إكمالها من أجل جلدة! أو قطع صغيرة أخرى،
اقرأ أيضاً: استهلاك المهندسين- أيهم محمود
تصنع الشعوب الحية أدواتها المتكاملة، لديها مواصفات تتقيد بها محلياً وعالمياً ونحن ثقافتنا الفوضى والاتكال المطلق على الآخرين، تحيا سوريا عندما تستطيع انتاج أدواتها اللازمة لإتمام العمل في الظروف الحالية، ليس لدينا طاقةً كهربائية فهل ننتقل إلى الأدوات التي تعتمد الطاقات المتجددة أو طاقة البشر أو طاقة الحيوانات أم أعتمد الحل البديل؟ أشتري مولدة ومضخة غاطسة كهربائية وأقضي حياتي في البحث عن البنزين أو المازوت اللازم لها فأوسع المشكلة وأضاعفها؟ وبدلاً من البحث عن قطع غيار لمضخة يدوية بسيطة سأضطر للبحث عن قطع غيار لمولدة ومضخة غاطسة وسأحتاج إلى سيارة لنقل الطاقة إلى المولدة ونقل المولدة إلى مراكز الصيانة، أُنقذ نفسي من صرف دولار واحد لأغرق في حاجتي لعشرات الدولارات، هذا هو ملخص متاهتنا الاقتصادية وهذا هو ملخص نزيفنا الدائم.
نعود الآن للسؤال الرئيسي الذي بدأنا منه حكايتنا: لماذا تستطيع المناطق النائية في الهند صناعة أدواتها اليدوية البسيطة بينما لا يستطيع السوري غير انتظار الفرج من السماء؟ هذا السؤال برسم المجتمع السوري كله، برسم جميع القراء وليس برسم الحكومات المتعاقبة التي لن نسألها فقد عرفنا إجابتها واضحةً من خلال استمرار الأزمات وعدم وجود حل لها.
اقرأ أيضاً: العجز.. ونصف موقف! _أيهم محمود