الرئيسيةرأي وتحليل

شيوخ الدين الجدد_ أيهم محمود

استسلام السيد لأوهام العبد حتى يصعب تحديد من الذي يقود الآخر في هذه اللعبة العبثية

سناك سوري_ أيهم محمود

يعتقد البعض أن زيادة مساحة التعليم الجامعي يزيد من فرص المجتمعات في الخروج مع واقع الجهل والتخلف والانتقال إلى مرحلة البحث والتجديد الداخلي، لقد راهن الكثيرون في القرن الماضي على هذه المعادلة لكن واقع المجتمعات في القرن الواحد والعشرين يشهد تراجعاً معرفياً في مناطق متعددة فيها كثافة مهمة في التعليم الجامعي، لم تستطع الجامعات إنتاج نخب ثقافية بل أنتجت أسلحةً أكثر فعالية وأكثر ضراوة لتثبيت الواقع القائم إن حاولنا تجميل الأمر ولم نقل لإغراق الواقع عمداً في مزيد من الأفكار السحرية والمخدرات الثقافية.
نلتقط في بعض المجتمعات حالتين مختلفتين شكلاً متشابهتين جوهراً تشريحهما يلقي الضوء على نقاط مهمة في الآليات الدفاعية ضد ثقافة التغيير، تتشارك في الحالتين جميع الأطراف المتفاعلة في تثبيت الواقع السحري ونفي الحقائق الموضوعية مستغلةً تاريخ العلاقة الملتبسة بين شيخ الدين الذي يعرف الحاضر ويدّعي أحياناً معرفة الغيب وبين المستسلمين لهم بعد أن أعياهم العجز وأعياهم الفشل في السيطرة على واقع يتخبط عشوائياً.

اقرأ أيضاً: استهلاك المهندسين- أيهم محمود

الطبيب والضابط: وهم المعرفة الشاملة والسيطرة على الأمراض للأول ووهم نجاح التغيير بالقوة والعنف في عالمٍ متخمٍ بالهزائم المستمرة للثاني، يسعى شيوخ الدين الجدد بدورهم لتثبيت هذا الوهم بين المستسلمين لهم، هذه العلاقة بين صانعي الأوهام وبين المسحورين بها نجدها أيضاً في المستوى الأعلى بين الشعوب التي ادعت سيطرتها على الطبيعة وترويضها وبين الشعوب التي صدقت أوهامهم واستسلمت كلياً لها، مازالت فكرة ساحر المجتمعات البدائية حيّة في وجدان غالبية البشر، ذاك الاستثنائي الذي يسّخر قوى الطبيعة ويضعها في خدمة الذين يؤمنون به أو الذين يمنحوه بعضاً مما يملكون، وهو أيضاً ذاك الكائن الخطير الذي يستخدم قواه ضد المارقين الكافرين بكلامه ومكانته، بقيت هذه الأفكار حيّة عبر تاريخ البشرية بصيغٍ مختلفة وأقنعة متلونة بعضها انتحل صفات الحداثة والتقدم بينما الجوهر بقي ذاته دون أي تغيير يذكر.
الطبيب امتداد ساحر القبيلة المداوي في الذاكرة البشرية العميقة، الساحر الذي استعار منه الكثير من الأطباء مكانتهم في المجتمعات البسيطة وبدلاً من أن يعملوا على رفض هذه القوالب التي تسعى المجموعات البشرية إلباسهم إياها قاموا بتثبيت هذه الأفكار فهي تمنحهم وهم القوة والسيطرة أيضاً، أي علاقة مرضية بين اثنين هي نتيجة مرضٍ أصاب الطرفين معاً لذلك لا يصح علاج أحد القطبين وترك الآخرون أي علاج، بقدر ما يحتاج المُتعب من عشوائية المجتمعات ذات التنمية البشرية المتدنية إلى المخدرات لنسيان الواقع المؤلم يحتاجها أيضاً من يملك بعض الوعي لكنه عاجزٌ عن إحداث أي تغيير فيها مثله مثل الأول، وأي مخدرٍ أشد فعاليةً من اعتراف الجميع بتميزك؟ يحتاج الكثيرون إلى هذا التأكيد من عددٍ كبيرٍ من البشر لمسح ذاكرة الهزائم القاسية ونفيها خارج الوعي، تحوي العلاقة في جوهرها استسلام السيد لأوهام العبد حتى يصعب تحديد من الذي يقود الآخر في هذه اللعبة العبثية التي لا تصل إلى أي مكان سوى المزيد من الانحدار إلى قاع البؤس.

اقرأ أيضاً: حروب الطاعة والتمرد_ أيهم محمود

في مقابل الساحر الأبيض (الطبيب) نجد الساحر الأسود (الضابط) الذي يستطيع قلب المعادلة باستخدام القوة والعنف، لن نستزيد في وصف العلاقة التكافلية بين الطرفين فقد وضّحنا قصدنا منها في الفقرة السابقة.
لا يقتصر وصفنا لهذه الحالات على هاتين المهنتين فقط بل يتعداه إلى كافة المهن الأخرى، اختيارنا للطبيب والضابط كان بسبب بلوغهما الحد الأقصى في وعي بعض المجموعات البشرية لكن قد يتفوق عليهما في مجتمعاتٍ أخرى عناصر اجتماعية مختلفة دون أن يتغير جوهر العلاقة السحرية بين الطرفين، كل هذه الحالات رموز تشير بوضوح إلى أن التغيير الثقافي أصعب مما يبدو للحالمين به وهو يحتاج إلى تغيرات ثقافية عالمية لبدء تاريخٍ جديد من الوعي البشري قادرٍ على مواجهة الأزمات الكبرى التي تعصف بكوكب الأرض بعد أن عجز سحرة البشر الجدد من السيطرة عليها لسبب بسيط جداً: معركتهم لم تكن مع الطبيعة بل مع ذاتهم الضعيفة ومع استسلامهم التام لوهم كونهم آلهة هذا العالم!.

اقرأ أيضاً: العلمانية الانتقائية- أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى