النرجسية.. حين تصل الأنا إلى حالة مرض- ناجي سعيد
النرجسي لا يرى أحدًا غيره.. أمّا الأنانية فهي تفتح الحدود وتدفع الأنا إلى حبّ الآخرين ومساعدتهم
ناجي سعيد – سناك سوري
لجأتُ أثناء تدريبي مجموعة تربويين (في مخيّم صيفي وكان اسم الموضوع طفولة حرّة من العنف) إلى القول لهم أنّ مفهوم “التضحية” هو مفهوم سيء جدًّا. وقد تملّك المتدربين دهشةٌ غريبة. فقد تربّينا على أنّ أسمى وأرقى المفاهيم الإنسانية هي التضحية. وهذا ما فهمه الناس من الحديث الشريف الذي قال: “وَأَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَأَنْ تَقُولَ خَيْرًا أَوْ تَصْمُتَ”. وأرى أن الناس لا تأخذ من فحوى هذا الحديث القيِّم (وهذا ليس حُكمًا بل بعد تجربة) سوى معنى من جانب واحد. فهم يعتقدون أنّ على الإنسان أن يُحبّ لأخيه ما يُحبّه لنفسه، تعني بالنسبة لهم، أن يحبّ لغيره شيئًا كان يريده وتمنّاه لأخيه، لا بل ساعده في الحصول عليه. وقد توصّل رجال الدين إلى مفهوم “الإيثار” المذكور في “سورة الحشر” :
( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، معتبرين أن الإيثار من أهمّ الفضائل في المجتمع، وقد عزّز الناس من خلال فهمم لهذا المصطلح، “عدم فهمهم” لمصطلح الأنانية.
نعم فكلّ من يتحدّث عن الإيثار والتضحية يقابلها في حديثه، التبخيس من قيمة “الأنانية”، وفي دفاعي عن مفهوم الأنانية أود أن أستعرض أوّلاً مفهوم النرجسية هو: ارتباط الإسم بالشخصية اليونانية “ناركسوس” والذي مات وهو على يقين بأنّه الأجمل شكلاً، فقد كان يمضي معظم وقته أمام النهر يتأمّل إنعكاس صورته في الماء. ثانيًا قرأت في كتاب عن النرجسية، وأعجبني مثال يلخّص كيف يتعامل النرجسي ويتصرف حيال حاجاته ورغباته أيضًا: “..يتّصل أحدهم بالطبيب ليطلب موعدًا فهو يشعر بالتعب والمرض.
المُتّصل: مرحبًا دكتور لوسمحت أريد موعدًا اليوم لتفحصني فأنا أشعر بالمرض.
الدكتور: أهلاً، لكنّ اليوم جدولي مليئ بمعاينات المرضى… :
لكن دكتور أنا مريض.
أعلم ذلك ويمكنك الحضور غدًا فأهتم بك..
لكنني مريض، وأنا أقطن في الشارع المجاور لعيادتك، ومن السهولة الوصول سيرًا على الأقدام..
وهذا المثال يوضح بأنّ النرجسي لا يرى أحدًا غيره، فالعالم ينتهي عند حدود “أناه”. أمّا الأنانية فهي تفتح الحدود وتدفع الأنا إلى حبّ الآخرين ومساعدتهم، لكنّ ضمن إمكانيتها.
اقرأ أيضاً: العقل والعقلانية في التصرّف أثناء الأزمات-ناجي سعيد
وثقافة الشعوب هي المحرّك لهذا المفهوم نحو السلبية أو الإيجابية، ففي مجتمعنا العربي، لو حصل أن رفضت مساعدة أحد بسبب عدم قدرتك أو عجزك، يستخلص الناس أنك “أناني” ولا تُحب عمل الخير، بينما في مجتمعات أوروبيّة كي لا أقول مُتقدّمة، لا يحكمون من خلال سلوك حصل مرة واحدة ليعمّموا على شخصيته ويصفوه بالأناني، لا بل بالعكس هو أناني ويساعد الأخرين في حدود قدرته بالطبع. وقد بحثت – خلال كتابتي لهذا المقال- عن ما كُتب أو يُكتب عن الموضوع، فلفتني التفسير اللغوي للمصطلح “إيثار”:
“الإيثار لغة: هو التقديم والتفضيل، أمّا إصطلاحاً: فهو عكس الأنانية، ولفظ يطلق على أي تصرف أو فعل أخلاقي يقوم الشخص بفعله، ويهدف بذلك أن تعمّ الفائدة والخير على غيره من الأشخاص وليس عليه دون انتظار أيّ مقابل لهذا الفعل، فالشخص هنا يفضل المصلحة العامّة على المصلحة الشخصيّة.
والخلاصة من هذا أن مفهوم الإيثار يذهب بالمرء إلى ما يعود بالنفع والخير على الأخر. ولكنّ، وهنا بيت القصيد كما يُقال: من المُستحيل أن يسري في مجتمعنا مفهوم “الإيثار”، وليس رأيي هذا سلبيًّا، فأنا أؤمن باللاعنف، وأعي تمامًا بأن الأنسان يميل إلى طبيعة الخير ويريده لأخيه الإنسان بالتأكيد، لكنّي استقيت من خبرتي التربوية -حين قرأت عن أهمية الأنا في علم النفس- بأن المرء الذي يريد أن يُقدّم للآخر مساعدة أو عطاءٍ ما، لا بدّ له أوّلاً أن يعتني ويهتمّ كثيرًا “بأناه”. فليس نرجسيًّا من يهتمّ بنفسه، لأنّ نفسه هي أناه. وبالتالي لا بدّ أن يكون أنانيًّا ليعطي الآخر، فكيف يمكن أن “يُعطي” من أنا مريضة؟ حين تصل الأنا إلى حالة المرض تُصبح “نرجسية”. وقد تُشجّع النرجسية صاحبها بأن يذهب إلى مسار “الإيثار”، ليس حُبًّا في مساعدة الأخر، بل عشقًا بتلميع صورته التي تطفو على سطح ماء النهر. وحين تسألني زوجتي: ليه الناس بحبّوا يحكوا على بعض؟ قرفت من تلقيف تهم وكذب علينا، ليه بيعملوا هيك؟ وقد خطر ببالي سرحان عبد البصير، حين سأل القاضي: هوّ له ما نكونش كلّنا كويّسن يا بيه؟ سأُجيب سرحان في نهاية المقالة: إنّ النرجسي يرتكب أي سلوك سلبي (لفظي وغير لفظي) ظنًا منه أن هذا السلوك يفيد في تلميع صورته لتظهر أمام الآخرين بأبهى حلّة.
اقرأ أيضاً: من قال إن القناعة كنز لايفنى؟- ناجي سعيد