المدينة الداعمة للنساء – لينا ديوب
تتحدث الكاتبة عن مدينتها وكيف دعمت النساء.. ماذا عن مجتمعكن؟
لست كغيري من طالبات صف اللغة الإنكليزية هذا، بدأت حياتي بالمقلوب، ولدت في الجنة، هكذا بدأت بالكتابة عندما طلب منا مدرس اللغة الإنكليزية في أحد معاهد تعليمها في دمشق الكتابة عن مدينتنا.
سناك سوري – لينا ديوب
غادرت مصياف إلى قسم الصحافة في جامعة دمشق، ورأسي مليء بجمال الخضرة والماء، وأفكار الصراعات السياسية والفكرية، وألوان الأدب والشعر، وفي عيني وجوه أقول عنها اليوم هي الإلهام والعطاء، لما قدمته من مثل وجسدت من قيم، حملت في رأسي أيضا صور تلك الطيور السوداء التي كان جدي يحملنا من السطح إلى قلب البيت عندما كانت ترمي القنابل على معسكر جيش التحرير الفلسطيني.
يدرك أبناء وبنات صفي وجيراني أنني لا أبالغ اذ قلت إن ملعب طفولتنا في الحارة الغربية عند منتصف الطريق من السوق إلى الوراقة، كأن خبراء في الزراعة وزعوا فيه الأشجار والعشب وتلك الساقية السحرية التي تمر ببيت”الخانم” وهو اسم صاحبة الكرم، تجلس أمهاتنا مع غروب الشمس قرب مسطاح التين تحت تلك الشجرة بأغصانها الدائرية وكأن أحدهم قلّمها لتصبح مظلة كبيرة وارفة الظل، ونحن نركض ونختبئ بين العشب وفوق الأغصان.
صوت سلمى الحاج إبراهيم، ابتسامة زينة المير محمود، وأسلوب وداد الدرزي في التحفيز، أقانيم تكفي لتذليل أي عثرة في طريق التعليم بمدرسة رابعة العدوية الابتدائية، ما درسناه لاحقا عن الود الحازم في التربية كنا قد عايشناه معهن.
اقرأ أيضاً: أصابعي وشرعة حقوق الإنسان وخصلة شعر أختي – لينا ديوب
تلك الحوارات الصاخبة، والخلافات على أي القوميين العرب أفضل، أو القوميين السوريين والشيوعيين بتصنيفاتهم المتعددة، كانت تهدأ في طريق القلعة أثناء توجه الجميع إلى الأمسيات الثقافية التي نظمها ” أبو زيدون” رفعت عطفة مدير المركز الثقافي لفترة ليست قصيرة، أراد خلالها أن يستضيف كل مفكر وشاعر وروائي وعازف ومغني قرأ له أو سمع به، أو اصطحبه ابن المدينة ممدوح عدوان في زيارة لها.
سألني يوم أمس أحد أصدقائي العراقيين على صفحة الفيسبوك بعد وفاة الشاعر مظفر النواب: “كيف تفهمون شعره باللهجة العراقية إنها صعبة؟”، لم يكن يدرك أن مظفر وكثيرون وكثيرات غيره لم يكونوا ضيوفاً عابرين وعابرات للمركز الثقافي في مصياف، وإنما هم أحبة مقامهم القلوب قبل البيوت، فكيف من يلامس قلبه شغاف القلب.
عند سؤالي عن النساء الملهمات في مدينتي خلال تدريبات الجندر، تتوارد الكثيرات ممن قدمن الوقت والجهد، القابلة القانونية نجاح الخطيب التي كانت تنقذ حياة الأمهات ومواليدهن داخل المدينة وفي الريف البعيد حيث لا مشافي ولا سيارات إسعاف حينها، وإنما شغف وإيمان لخدمة الناس، على التوازي كانت القابلة القانونية اكتمال فصيح التي استمرت في عطائها أربعين عاما تتنقل بين المدينة والريف الممتد.
لا أدري إن كانت السيدة نبيهة الخش هي المعلمة الوحيدة من أيام الفرنسيين، لكن الأكيد منذ خمسينات القرن الماضي ونساء المدينة يخرجون إلى جامعتي حلب ودمشق، ليعدن معلمات ومهندسات وطبيبات، لم تعتمد مدارس مصياف كغيرها على معلمات من محافظة حماة وغيرها إلا نادرا، لأن بناتها عادوا إليها بمختلف الاختصاصات، فالسيدة آمنة البعريني من أوائل المديرات.
لم تكن فاديا غيبور مدرسة لغة عربية فقط وإنما شاعرة وأديبة شاركت في مهرجانات الشعر في مختلف المحافظات، وعضوا في اتحاد الكتاب العرب.
اجتمعت الحرب مع الإهمال على المدينة، جنة الطفولة تراجعت الخضرة فيها لصالح كتل اسمنتية عشوائية تكاد تحاصر وراقتها، لم تعد الطيور السوداء تلك تحلق فوقها، إلا أنها باتت ترمي من البعيد عليها الصواريخ.
لم يعد المركز الثقافي وجهة النساء والرجال الحيوية، لكن مصياف بقيت المدينة الداعمة لنسائها، يتحركن فيها ويقدمن قصص النجاح صانعات الحياة.
اقرأ أيضاً: شريكات لا قديسات – لينا ديوب