الرئيسيةشباب ومجتمع

أصابعي وشرعة حقوق الإنسان وخصلة شعر أختي – لينا ديوب

من منكنّ تخوض مثل تلك المعارك اليومية وهل فكرتنّ يوما بترك كل شيء؟

انتبهت في اللحظة التي لم أعد أقوى فيها على تحريك أصابعي فوق الكيبورد بسبب شدة البرد، أنني وصلت إلى عبارة حقوق الانسان، تذكرت حينها أنني رأيت دموع أمي، وهي تسمع شقيقتي الأصغر تقول لها إننا نعمل في ظروف غير إنسانية.

سناك سوري-لينا ديوب

حملت لابتوبي وخرجت لأقرب مقهى انترنت، بحثا عن شبكة أسرع وتغطية أفضل، مقابل أربعة آلاف ليرة لكل ساعة أعمل بها، وهذا سعر مرتفع بالنسبة لنوع الخدمة من جهة ولدخلي المتدني من جهة أخرى، المحطة التلفزيونية التي تعاقدت معي لا تقدر جهدي الحقيقي، وإنما تتعامل مع مترجمة من بلد فيها حرب، الأجور فيها متدنية وفرص العمل قليلة، وإلا كيف تحدد لي أجر واحد على كل من ترجمة الحوار، وكتابة النصوص على الشاشة، أليس كل منهما عمل منفصل وله أجر منفصل؟! ولن يكون الأجر لشهر كامل أقل من مئة دولار.

التفت نحو الباب إنها السادسة مساءً والمدينة تغرق في ظلام دامس والحركة تكاد تنعدم، عدت إلى بيتنا البارد وضوء اللدات الخافت، مر يوم، أسبوع ولم يستطع أي منا الفوز بنعمة الاستحمام، نعمتان لا تجتمعان في بيتنا الماء والكهرباء، أصحاب الصهاريج يتدللون على والدتي، فلا يأتون بالموعد المحدد ويطلبون أسعاراً عالية، علينا شهرياً تأمين مئة ألف ليرة ثمناً لماء الاستحمام والجلي وتنظيف البيت، لأن البلدية تقول إن قدوم الماء يحتاج للكهرباء، والكهرباء في موعد وصلها تقطع مرات ومرات، فتأتي متقطعة لربع ساعة أو عشر دقائق في فترتها التي يجب أن تكون ساعة ونصف.

ثمة مظاهرة بمحيط الطباخ الكهربائي، مع اقتراب وصل التيار، أنا وأختي بانتظار تسخين ابريقي المتة، وأخي يريد فنجان قهوة وأمي تستعد لطبخة ساخنة في هذا البرد، تصرخ أمي الأولوية للطبخ، ونرد عليها: “مضى خمس ساعات ولم نشرب شيئاً دافئا، الأولوية للمتة والقهوة”، لو لم تكن أمي من السوريات اللواتي يشبهن نجوم السماء العالية تضيء روحها المكافحة وقلبها الحنون مساحات أكبر من بيوت قطنا كلها ودمشق أيضاً، لما استطعنا تحمل كل هذا الوقت الصعب، يخطر في بالي أحيانا أن أقفل البرامج العلمية والحوارات التلفزيونية التي علي ترجمتها، وأستبدلها بضحكة أمي وأكتب لها النثر الجميل، لأرتاح من حربي اليومية مع سرعة النت والبرد والعتمة والهدوء لتلتقط اذني بشكل صحيح كل كلمة وعبارة حتى لا أخطأ في الترجمة.

اقرأ أيضاً: نسوية وأحب أسرتي – لينا ديوب

أحيانا لا أصدق أن أختي التي تحب الملابس الجميلة، والاهتمام بالجمال والأناقة، لم تعد تبدل قمصانها ولا بناطليها، ها هي تكتفي بغسيل الخصلة الأمامية من شعرها الأسود الجميل، مستغلة إشعال أمي مدفأة المازوت في الصباح الباكر لتكسر سم البرد كما تقول لنا قبل الخروج إلى الدوام، لتنشفها علها تعطيها شعورا بالانتعاش، أو تعويضا عن الحرمان من الاستحمام.

عاد أبي من جولته في سوق المناخلية الشهير بالصناعات المستجيبة للظروف الطارئة والصعبة إن صح تعبيري، دون أن يشتري مدفأة الكاز التي صممها صناعيو السوق لتقوم بمهمتين التدفئة والطهي، إلا أنهم لم يستطيعوا منع روائح حرق الكاز التي سببت التهاب الصدر لصغار أحد الزبائن الذي نصح والدي بعدم شرائها إذا كان الهدف التدفئة.

ما بين السخرية على الألم والاعتراف به، اتصلت أختي من مكان عملها تمازحني، بأن زميلها أبدى اعجابه بدقة ترجمة حوار تلفزيوني عن حقوق الانسان وربطها بالقوانين المحلية، شاءت الصدفة أنه من ترجمتي، فقالت له: لا شك أن المترجم أو المترجمة سوريون ويعملون بظروف غير إنسانية وأصابعهم تكاد تصاب بالشلل من البرد، وكل ما تجنيه من مال لا يكفي إلا للمساهمة مع بقية العائلة لتأمين طعام لابأس به، مال لا يكفي لرفاه الخروج مع الصديقات والأصدقاء، أو شراء ملابس جديدة أو التفكير برحلة ليست بعيدة.

اقرأ أيضاً: المرأة الموظفة.. مساواة في العمل وجهد مضاعف بالمنزل – لينا ديوب

زر الذهاب إلى الأعلى