الرئيسيةرأي وتحليل

السياحة إلى جهنم – أيهم محمود

السياحة لن تكون مفيدة إن لم تكن خارجية فالداخلية هي نقل المال من جيب إلى آخر

المعادلة بسيطة جداً ومع ذلك يفشل السوريون في فهم آلية عملها، كلما ازدادت الأزمة حدةً يزداد معها منسوب الخيال العلمي للسوريين، قسمٌ منهم عالقٌ في أوهام مدينة دبي التي لن تتكرر في منطقةٍ أخرى لأسباب موضوعية تتعلق بالموقع، والإرادة الدولية، والغاية النهائية من حماية هذه الواحة المؤقتة.

سناك سوري-أيهم محمود

لقد سمعت بشكل شخصي أنه لو لم تحدث الأزمة السورية لكانت أجزاء من دمشق العاصمة على الأقل تحوي أبنية تشبه أبنية دبي، لم أسمع هذه الأقوال من شخص واحد، بل من عدة أشخاص في مراكز هندسية مرموقة، المشكلة أن الصحيح هو العكس تماماً، ما حدث كان نتيجة لهذه الأمنيات العقارية الخارجة عن السياق المنطقي والطبيعي والموضوعي للاقتصاد السوري.

تشاركها المسؤولية مناصفةً عن ماحدث، التوجهات السياحية التي أصبحت العنوان المسيطر على عقول السوريين، أنتمي لمنطقة كانت مكتفية غذائياً بنسبة كبيرة، قبل أن يغير تصوير مسلسل تلفزيوني جمالها الطبيعي الريفي ويحولها إلى منطقة سياحية تسببت في غزو السرطان البيتوني للأراضي الزراعية، وتسببت أيضاً بتغير توجه الكثير من سكانها من الانتاج والاكتفاء الذاتي إلى أحلام الربح العقاري والسياحي، بدءاً من إنشاء دكانٍ خشبي مؤقت لبيع القهوة للزوار، حتى إنشاء مطعم يبدأ بنصف نجمة وينتهي ببضع نجوم.

مقالات ذات صلة

المعادلة البسيطة في أي اقتصاد -سواء على مستوى الدول أو على مستوى الأسرة الواحدة- هي توازن قيمة الواردات مع الصادرات، التوازن كفاف، سيطرة الصادرات ربح، سيطرة الواردات نزيفٌ يترافق مع الاستدانة أو بيع الأصول العقارية، لا يمكن لأي أسرة إنفاق مبالغ تتجاوز دخلها الشهري أو السنوي، يمكن الاستدانة فقط في حال وجود واردات مالية لاحقة من أجل سداد الديون ومستحقات فوائدها، هذه أمور بديهية، إذا ما معنى السياحة الحالية في سوريا؟.

لن تكون السياحة مفيدة عملياً إن لم تستقطب السياح من العالم وليس من الداخل فقط، السياحة الداخلية هي نقل المال من جيب إلى آخر والمحصلة النهائية صفر، بل سالبة كما سنوضح لاحقاً، في حال السياحة الخارجية لدينا عملات مختلفة تدخل إلى البلاد وهذا يساعد في التخفيف من عجز ميزان الواردات والصادرات.

أما السياحة الداخلية فإنها تساهم في مزيد من نزيف العملات باتجاه الخارج، لأن الدفع بالليرة السورية في السياحة الداخلية يتطلب وجود استثمارات عقارية ضخمة، الكثير من تجهيزات إنشائها واستثمارها مستورد، بدءاً من فولاذ إنشاء الأبنية، وصولاً إلى صحون تقديم الطعام والطاقة اللازمة لتشغيل المنشأة.

الحجة التي تقول أن السياحة الداخلية تمنع إخوتنا السوريين من إخراج دولاراتهم وصرفها في منتجعات الخارج هي عذرٌ أقبح من ذنب وفق التعبير العربي الشهير، لأنه يتحدث علناً عن طبقة غير مبالية بمصير وطنها، لا تهتم لاستمرار وجوده، ولو كنت محل هذه الطبقة لرفعت شكوى تدين هذا القول بصفته اتهاما سيئاً بحقها.

لن تكون السياحة مفيدة عملياً إن لم تستقطب السياح من العالم وليس من الداخل فقط، السياحة الداخلية هي نقل المال من جيب إلى آخر والمحصلة النهائية صفر

اقرأ أيضاً: الهروب الكبير إلى الأمام – أيهم محمود

المعضلة تكمن في جزئية غير واضحة للجميع، اسمحوا لي بسردها على شكل افتراض، أو مثال صغير:

أنا مواطن سوري، مزارع قمت بزراعة أرضي بمحصول ما، وليكن البندورة التي يتم تصدير بعضها بالفعل، بعت إنتاجي لتاجر سوق الهال، ثم انتقل هذا الانتاج إلى يد تاجر أكبر قام بتصديره إلى خارج سوريا، حصل التاجر النهائي على قيمة البضاعة بالدولار أو بأي عملة عالمية أخرى، أو حصل بدلاً عن بضاعته على بضاعة أخرى يحتاجها الداخل السوري، يعتبرُ العقل الجمعي أن المال بالعملات العالمية هو حق التاجر، بينما الأصل أن هذه العملات يجب أن توزع على جميع من ساهم بالعملية الانتاجية من أجل تجديد وسائل الانتاج وتحسينها، بدءاً من المزارع الذي يحتاج أدوات وأسمدة مستوردة، مروراً بتاجر سوق الهال من أجل تحسين أساليب التغليف والتوضيب والفرز وعدم تضرر البضاعة في مراحل النقل الأولى، إضافة إلى الدولة التي أمنت البنى التحتية من طرقات وموارد ساعدت في إتمام عملية التصدير.

وأخيراً يأتي دور التاجر الذي سهل بعلاقاته إنجاز عملية التصدير، قد تكون هناك أطراف أخرى أيضاً، لكنه مثال للايضاح فقط، مَنْحُ التاجر ميزة حصوله على كامل العملات الدولية يجعله قادراً على استيراد حاجاته لكن مع حرمان الآخرين من حقهم في استيراد أدواتهم مما يدمر كامل العملية الإنتاجية على المدى القصير أو البعيد، ويزيد من حدة الأزمة الاقتصادية.

أحد الحلول البديلة هو إعادة معظم العملات الدولية إلى الدولة التي تتكفل بتوزيعها على المنتجبن على شكل أدوات انتاج ومواد أولية، ما جرى في سوريا عملياً هو العكس، فضيحة الأموال السورية في المصارف اللبنانية هي رأس الهرم الجليدي فقط، لو بقيت هذه الأموال في الداخل السوري على شكل أدوات ومواد أولية للإنتاج لبقي معظم السوريين فوق خط الفقر، ولما هاجرت النخب السورية الصناعية والعلمية نتيجةً لدلال الطبقة التي تحاول السياحة الداخلية الآن استقطابها لمنع صرف دولاراتها في باريس أو لندن أو دبي نفسها.

صناعة السياحة جيدة كعمل إضافي بعد تأمين الأساسيات الضرورية اللازمة لصيانة الحياة، مثل النشاط الزراعي، والنشاط الصناعي، قد تُوقف قنبلة صغيرة موضوعة في طائرة النشاط السياحي كما حدث في مصر، أو تعطل حرب إقليمية السياحة وتجعل قيمتها صفراً، من هنا كان عنوان المقال، السياحة إلى جهنم، فهي ستؤدي في آخر المطاف إليها، كمن يرسل دبابة بين الحقول دون حماية المشاة وحماية الطائرات لها، حتى هذا الكائن الضخم لن ينجو بمفرده إن لم يتكامل عمله مع عمل بقية الوحدات العسكرية.

السياحة الحالية كإقتصاد مسيطر فكرياً على شريحة واسعة من المجتمع، كارثة بكل المقاييس، وهي لن تساهم إلا في تسريع النزيف اليومي، وصولاً إلى حالة العجز والموت السريري لما تبقى من وجودنا ونشاطنا الاقتصادي، الذي كان حتى فترات قريبة غنياً ومتنوعاً قبل انتقال جنون دبي إلى عقول السوريين الحالمين بها.

اقرأ أيضاً: الحب المشروط في نتائج امتحان البكالوريا السورية – أيهم محمود

زر الذهاب إلى الأعلى