الرقص في مخزوننا الثقافي – حسان يونس
الرقص الدوراني الذي تمارسه الفرق المولوية (الدراويش) تعود أصوله إلى الإلهة عشتار
حسان يونس – سناك سوري
مرّت منذ أيام ذكرى اليوم العالمي للرقص في 29 آيار، وإنه لمن المناسب في هكذا ذكرى أن نتساءل عن موقع الرقص في مخزوننا الثقافي؟، هل كان السوريون القدماء يوجهون كلمة “رقاصة” إلى المرأة للحط من قدرها؟، هل ارتبط الرقص لديهم بالطبل والزمر؟، هل كانت نظرتهم إلى الفن إجمالا على الدرجة من التزمت والتلمودية؟، التي ترى العالم من منظار ضيق جدا.
كان الرقص لدى القدماء نوعا من العبادة، التي تحرّر المخزون الأسطوري، وتسمح للإنسان السوري القديم بالتواصل مع الآلهة والطبيعة من خلال حركات أشبه ما تكون بلغة تصويرية تعكس ديانته وابتهاله، وليس من قبيل المبالغة القول أن حركات العبادة في الديانات الحديثة والطواف على الأخص هو رقص وفق الفهم القديم للرقص، باعتباره لغة تواصل مع الطبيعة والإله تسمح للإنسان بالتحرّر من عالمه المحدود إلى عالم منفتح على المجهول اللا متناهي، والتماهي مع الحركة الدورانية للكواكب والنجوم والذرات ولسائر الوجود.
اقرأ أيضاً: الديمقراطية التي ارتكبها أجدادنا ونجحوا فيها حسان يونس
من اﻻثار المهمة في مجال الرقص هو الطبق الفخاري المكتشف في العراق/ سامراء (5000 ق.م)، والذي نقشت عليه أربع نساء تتطاير جدائلهن على شكل صليب معقوف في رقصة، تحيلنا إلى رقص يمارسه الغجر حاليا، و يطلق عليه شعبياً (الكاولية)، وهو ما أظهره ببراعة فيلم “الغجر يصعدون إلى السماء”، هذا الرقص يؤدّى استجلابا للمطر وتضرّعا لسيد المياه الإله أيا أو انكي، فهو مخاطبة للإله بلغة تصويرية من خلال الصليب المعقوف/الزوبعة/الماندلا وهي كلها رموز للخصب الأنثوي، حين كانت المرأة مقدسة في عصور ما قبل الزراعة وفي بدايتها، وحين كانت طقوسها ورقصاتها في استنزال المطر، ونمو الزرع تعكس دورها في الخلق، وطرح الخصب والوفرة.
بشكل مشابه كانت كاهنات الإلهة عشتار يمارسن رقصة (الهجع) التي لا تزال تمارس في جنوب العراق، والتي تتضمّن وفقا لفراس السواح في كتابه (لغز عشتار) هز الوركين والكتفين، إضافة إلى قيام الكاهنة بإطلاق شعرها وتحريكه يمينا ويسارا بشكل عنيف ومأساوي، قبل أن تثني ركبتيها لتقترب من الأرض، فتسدل شعرها، وتمسح به الأرض وما حولها برفق، ثم تنهض وهي تركل الارض بقوة وبشكل متكرر، فيما يشبه محاولة لإيقاظ الأرض من سبات شتاء طويل، وتحرير الإله تموز من أسر العالم السفلي وفك أسر الحياة وإطلاق الربيع .
اقرأ أيضاً: سوريا التاريخية.. نساء صانعات سلام -حسان يونس
وغير بعيد عن هذا الطقس لا تزال حلقات الدبكة التي تقرع الأرض أيضا محاولة إيقاظها أو إيقاظ مكنون ما في اللاوعي، و”الدلعونا” المترافقة مع الدبكة، والموزونة وفق خطواتها تعود وفق قاسم بياتلي في كتابه (ذاكرة الجسد – في التراث الشرقي الإسلامي) إلى أسطورة كنعانيّة تعود إلى الإلهة عناة، إلهة الخصب والحبّ والحرب عند الكنعانيّين، وابنة الإله إيل، وكان يتوسّل إليها العشّاق من أجل الحظوة بعشيقاتهم، بالقول: “عَناة يَدُكِ يا عَناة”؛ ومنها اشتُقّ لفظ “الدلْعونا” ووفق قراءة أخرى للباحث الشهيد الفلسطيني باسل الأعرج، في كتابه (وجدت أجوبتي )، يرى السريان أنّ “الدلْعونا” مؤلّفة من أل التعريف السريانيّة، وهي الحرف “د”، بالإضافة إلى كلمة “عونا”؛ لتعني المعاونة والمساعدة والفزعة وترتبط لديهم بطقس عصر العنب في أجران معاصر النبيذ الصخريّة، تحت أقدام النساء، اللاتي يشترط أن يكنّ عذارى، ومع هرسهنّ العنب بكعابهنّ، يسيل العصير عبر القناة الصخريّة، ومن مد يد العون في الحركة الجماعيّة لهرس العنب جاءت دبكة “الدلْعونا” .
وأما الرقص الدوراني الذي تمارسه الفرق المولوية (الدراويش)، والذي أعاد إحياءه مولانا جلال الدين الرومي في القرن الرابع عشر، فتعود أصوله إلى الإلهة عشتار، وعشقها للإله تموز وحزنها وغضبها على موته ونزوله إلى العالم السفلي، الذي أثار غضبها الشديد، ما دفع إله الخلق (أيا) إلى خلق (صلتو)، ليكون ندّا لعشتار، يواجهها ويمتص غضبها، وفي تلك المنازلة الملحمية صار صلتو يحاكي حركات عشتار فيتلوّى، ويلتفّ دائراً أمامها، ويزمجر مثلها، فكان أن تخلّدت هذه الملحمة بتمثيلها جيلا بعد جيل في الرقصة الدورانية التي تسمى سريانيا (آجوشايا) من خلال رجال متنكرين بزي النساء ، ونساء يحملن أسلحة عشتار ،يقومون بتنفيذها، وكان التدامرة يمارسونها كرقصة حرب، ولا تزال هذه الرقصة قائمة إلى اليوم في إحدى أوجه الرقص السرياني المسمّى “شيخاني”، كما لا تزال شائعة لدى الفرق المتصوفة (الدراويش)، ومعتمدة في طرق العلاج البديلة للتخلّص من الخوف والتوحد والمكبوتات المختلفة.
كما أن رقصة “الجوبي” التي لا تزال معتمدة في حوض الفرات، (يؤديها الجنسان بشكل مختلط لدى كل من الأكراد، والأرمن، والآشوريين، والأيزيدين، والتركمان، والكلدان، وغيرهم، ويؤديها الرجال فقط لدى العرب)، تعكس الأسطورة الرافدينية القديمة، وترمز للحركة، والحياة، والخلق، والخصب، وسوى ذلك من المعاني المستوحاة من قصة الخليقة، وانتصار الإله مردوخ على العمى والظلام ممثّلا بالإلهة (تيامت).
إن كل هذا التواصل بين القديم والحديث وكل هذه الوحدة الثقافية والروحية على امتداد الزمان والمكان والجماعات، كنز مهمل مهجور للأسف، فأول مهرجان لتوثيق وعرض الرقص الشعبي في سورية جرى في تموز 2015 تحت مسمى “قوس قزح”، فيما يمثل اعترافاً للمرة الأولى من قبل المؤسسات الرسمية بهذا الكنز من التنوع والغنى الثقافي .
اقرأ أيضاً : الطقوس الدينية والطبيعة السورية القائمة على التنوع حسان يونس