الرئيسيةرأي وتحليل

الديمقراطية التي ارتكبها أجدادنا ونجحوا فيها – حسان يونس

الكلام القائل إن شعوب المشرق العربي عاجزة عن ارتكاب الديمقراطية.. كلام باطل بحكم التاريخ الفينيقي

سناك سوري-حسان يونس

هناك مقولات يجري تكرارها في الكتب، وفي الذاكرة العامة للبشر بحيث تغدو من المسلمات غير القابلة للدحض، أو أن دحضها يستلزم صراعاً عنيفاً دموياً، لأن تلك المقولات في الغالب تكون العناوين العريضة التي تشفر نظاماً ما للسيطرة، سواء كان نظاماً دينياً أو نظاماً عِرقياً، ومن الأمثلة المعروفة على نطاق واسع مقولة دوران الشمس حول الأرض، وما استلزم نقضها من حرق لعلماء وقهر لمجموعات فكرية ومخاض طويل، باعتبار أن انتهاك هذه المقولة يمثل انتهاكاً للسلطة الكنسية القائلة بها والقائمة عليها.

وعلى نحو مشابه هناك مقولة تتردّد في أغلب كتب التاريخ والقانون وكذلك الاجتماع بما في ذلك مناهجنا، تتحدث هذه المقولة عن أن أول نظام ديمقراطي شهده العالم القديم كان في أثينا اليونانية في القرن الخامس ق.م وأن هذه الديمقراطية نشأت وترعرعت في الجزر اليونانية محمولة على المدارس الفلسفية اليونانية المعروفة والتي جاءت إلى العالم من الفراغ أو من الإلهام الغامض.

في الواقع إن النبش في التاريخ وأحداثه أظهر زيف هذه المقولة وتهافتها أسوة بتهافت دوران الشمس حول الأرض، لكن استمرارها وترسّخها لدى كافة المؤرخين والقانونيين، يرتبط بالسيطرة والمركزية الغربية كما ارتبط دوران الشمس حول الأرض بالسيطرة والمركزية الكنسية في أوروبا خلال القرون الوسطى.

اقرأ أيضاً: حكاية الرجال الذين قتلوا نسائهم وأطفالهم في المدينة الفينيقية- حسان يونس

يورد المؤرخ “يوسف الحوراني” في كتابه المُعنَون (لبنان في قيم تاريخه) بحثاً حول النظام الديمقراطي لدى الفينيقيين، ويقدم الكثير من القرائن على أن المدن الفينيقية عرفت نظاماً ديمقراطياً منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد حتى الدمار الشهير الذي عرفته المدن-الدول الفينيقية (صور، صيدا، قرطاج) في القرن الرابع والقرن الثاني قبل الميلاد على يد الفرس الأخمينيين والاسكندر المقدوني والرومان.

تمثل مدينة طرابلس من حيث فكرة إنشائها نموذجاً عن الديمقراطية الفينيقية، فقد أنشاتها صيدا وصور وأرواد، لتكون منطقة اجتماع وسطى تلتقي فيها المدن-الدول الثلاث لعقد اجتماعات تشاورية تتمثل فيها كل مدينة بمائة وأربع أعضاء، وكان قرار الثورة ضد السيطرة الفارسية الأخمينية 360 ق.م والذي أودى بمدينة صيدا وتسبب بانتحارها حرقاً قد اتخذ في أحد الاجتماعات في طرابلس، وعندما قرر الملك الفارسي “أرتحشستا” الثالث القضاء على صيدا لتكون عبرة لسائر المدن الفينيقية وللمصريين وللإغريق، عقد ملكها “تنيس” اجتماعاً عاماً لمجلس المائة وأربع أعضاء، لكنه سلمهم إلى الفرس مضحياً بهم ككبش فداء لعل الملك الفارسي يتوقف عن تدمير المدينة.

كما أن أرسطو أثنى على نظام الحكم في “قرطاج” في كتابه (السياسات) وأشار إلى سلطة مجلس المائة وأربع الذين كانوا ينتخبون من الوجهاء، وأشار إلى توافق الملك مع مجلس الشيوخ في تصريف أمور البلاد وعلى إشراك الشعب في السياسة ما يمنع حدوث ثورة أو ظهور طاغية.

اقرأ أيضاً: ثلاث تحولات كبرى في تاريخ سوريا – حسان يونس

إن النظام الديمقراطي في “قرطاج” الذي وثقه أرسطو، ووثقه كذلك المؤرخ المعروف “بوليبوس” يمثل امتداد للنظام الفينيقي السائد في شرق المتوسط، حيث إن قرطاج بقيت تتبع إدارياً لصور حتى 520 ق.م، والأمر الأهم في كل ذلك أن حوض المتوسط بما فيه الجزر اليونانية وقبرص وكريت كانت خلال عصر السطوة الفينيقية بدءاً من القرن العاشر قبل الميلاد تزدحم بالمستعمرات الفينيقية أسوة بقرطاج وغاديرا (قادش)، حيث شاركت تسعة مدن في قبرص صيدا ثورتها على الفرس الأخمينيين، وهذا يأتي من ضمن الشبكة التجارية التي نسجها الفينيقيون على امتداد المتوسط شرقاً وغرباً، شمالاً، وجنوباً.

تلك المنظومة التجارية كانت تتطلب نظاماً ديمقراطياً يحمي الحركة التجارية الصناعية ضمن شفافية ومرونة تشابه ظروف نشأة الديمقراطية البريطانية الأقدم في العصر الحديث، والتي نشأت استجابة للنشاط التجاري، الصناعي الذي عرفته بريطانيا بدءاً من القرن السابع عشر، وبالتالي فنظام الدولة-المدينة الذي أينعت ديمقراطية أثينا في أجوائه كان امتداداً لتأثير المراكز الفينيقية على أطرافها الممتدة على كامل المتوسط، ذلك أن اليونانيين لم يخترعوا ديمقراطيتهم من الفراغ، بل اتكأوا على شرق المتوسط السابق لهم في نظام “الدولة – المدينة” ذات مجلسي الحكم وذات الملك محدود السلطة.

بالتأكيد لسنا في وارد بخس الحضارة اليونانية أهميتها في التطور السياسي، أو ترديد الكلام العبثي عن احتكار الحضارة في هذه البقعة أو تلك من العالم والزمن، فالحضارة ضوء متحرك بين الأمم والشعوب والأمكنة والأزمنة، لكننا في وارد رفض المقولة (السيئة النية)، التي تتردد كثيراً في زمن الثورات والاضطرابات السياسية عن أن شعوب مشرقنا العربي عاجزة جينياً عن ارتكاب الديمقراطية، أو أنها بحكم مسيرتها التاريخية غير مؤهلة لإنتاج أنظمة ديمقراطية، فهذا الكلام باطل بحكم التاريخ الفينيقي على الأقل، والأمر الآخر أن كل باحث تاريخي أو قانوني يهمل أسبقية الديمقراطية الفينيقية على وليدتها اليونانية هو شريك لـ “أرتشحستا” الثالث الفارسي في حرق صيدا وللاسكندر المقدوني في حرق صور ولكاتو الروماني في حرق قرطاج .

اقرأ أيضاً: الاسكندر والشرق الأوسط الجديد .. حسان يونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى