الرئيسيةفن

الحصار عبر التاريخ.. بابل وتدمر نموذجاً- حسان يونس

شراكة “أذينة”.. خلاص “تدمر”.. تفرد “نبونائيد” .. فشل “بابل”.. في التصدي للحصار 

سناك سوري – حسان يونس

بالتوازي مع سقوط قانون “قيصر” في فضائنا العام مثل نيزك مدمر سيكون من الجيد استعادة حكايا الحصار القديمة والتداوي بها، إذ شكّل الحصار الاقتصادي الذي عانته المراكز الحضارية في منطقتنا سمة بارزة للتحولات التي عاشتها هذه المنطقة على إثر سقوط تلك المراكز، التي مثّلت لفترات من التاريخ بؤرة استقلال وتمرد على النفوذ الخارجي والمنظومة الدولية الطاغية والظالمة.

من المعلوم مثلاً أن سقوط “بابل” سبقه حدث أثار الكثير من الغموض والتساؤلات، ألا وهو انتقال ملكها “نبونائيد” من عاصمة ملكه “بابل” إلى “تيماء” في شمال “الحجاز” حيث أقام فيها عشر سنوات، انقطع فيها عن “بابل”، التي خضعت لحكم ابنه بالنيابة “بلشاصر”، ويذهب “الدكتور “سعيد بن فايز السعيد” في بحثه المعنون “حملة الملك البابلي “نبونائيد” على شمال غرب الجزيرة العربية، في بحوث تاريخية صادرة عن الجمعية التاريخية “السعودية”، يذهب إلى القول إن “نبونائيد” غادر “بابل” إلى “تيماء” على رأس جيشه لأسباب اقتصادية، تتصل بالسيطرة على طريق التجارة القادم من جنوب الجزيرة العربية إلى “الشام” مروراً بـ “تيماء” و”يثرب”، وهو استمرار لطريق التجارة البحري العابر للمحيط الهندي والممتد خلال “اليمن”، وتذهب الأبحاث إلى أن تحركه هذا جاء بعد حصار ومعاناة اقتصادية عانتها “بابل”، نتيجة تغيير “الأخمينيين” لطريق التجارة القادم من الشرق والمار بـ “بابل” نحو الشمال ماجعلها مدينة معزولة عن طريق الحرير وخارج حسابات التجارة الدولية، وأصبحت تعاني من نقص الموارد، وهي التي كانت العاصمة الأهم في العالم آنذاك، وكيلا يكتمل الحصار استبق “نبونائيد” الأحداث، وأنشأ مركزاً له في “تيماء”، شمال “الحجاز”، للإمساك بطريق التجارة القادم من الجنوب إلى الشمال بعدما تخوّف من امتداد أصابع السياسة “الاخمينية” إلى هذا الطريق أيضا.

اقرأ أيضاً:عن الانتداب الفرنسي.. غزل من نوع آخر – حسان يونس

وفي مطلق الأحوال تضافرت مجموعة عوامل أسهمت في سقوط “بابل” 539 ق.م بيد الفرس “الاخمينيين”، منها العامل الاقتصادي المذكور، ومنها عامل آخر يرتبط بنزاع عقائدي بين “نبونائيد” الحرّاني الأصول، والمتعبد لإله “القمر سين”، وبين كهنة “بابل” الذين تعبّدوا الإله “مردوخ”، واحتفوا برأس السنة البابلية في أوائل الربيع، وهو الطقس الذي أهمله نبونائيد وخليفته بلشاصر.
الحصار الذي أودى بحياة “بابل” واجهته “تدمر” هي الأخرى، لكنها كانت مدينة متماسكة عقائدياً (سياسياً ) ما سمح لها بتجاوز التحدي، بل وتحويله إلى فرصة أحالت “تدمر” مدينة مستقلة وعاصمة شرقية للإمبراطورية الرومانية في زمن حكم “أذينة” ابن “حيران” وخليفته “زنوبيا” .
وهنا لا يجري الحديث عن نزاع “تدمر” مع “روما” في عهد “زنوبيا”، بل يتعلق الأمر بالنزاع التدمري الساساني، الذي اشتعل على خلفية الصراع على خطوط التجارة، ومحاولة الملك الساساني “سابور” إعادة صياغة العلاقات التجارية الدولية حسب اعتباراته، فوفقاً للأستاذ “تيسير خلف” في رائعته “مذبحة الفلاسفة ” كانت “تدمر” ثمرة اتفاق في 19م بين “القيصر جرمانيكوس، ولي عهد الإمبراطور الروماني “تيباريوس” مع ملوك الصين عبر الفرس البارثيين، وهو اتفاق أوكل “تدمر” بتجارة الحرير القادم من “الصين” عبر خليج الكلدانيين “الخليج العربي” إلى “تدمر” ومن ثم إلى “روما”، وقد شيّد التدامرة معبد بل (الذي فخّخه وفجّره تنظيم داعش والجهات التي تتلطى خلفه) على نية تقديس ومباركة هذا الاتفاق (كما يفعل السوريون اليوم عند بدء عمل أو الانتقال إلى بيت جديد).

اقرأ أيضاً:جريمة قتل العقل الحر – حسان يونس

مع سقوط أسرة “البارثيين”، وصعود أسرة الساسانيين (ازدشير وابنه سابور) على عرش طيسفون في بلاد فارس 226 م، سقط هذا الاتفاق، خاصة مع انقسام مملكة “الهان” الصينية إلى ثلاث ممالك متناحرة، واتفاق الساسانيين مع إحداها على نقل البضائع وخاصة الحرير إلى الغرب عبر الطريق الشمالي العابر لبلاد الترك، وإغلاق أي طريق آخر، وهذا ما يفسّر إصرار الساسانيين على تدمير وإحراق المنافذ التجارية لـ “تدمر” على “الفرات ودجلة” وخليج الكلدانيين، مثل “عانات والحضر ودورا اوربس والنظيرة وسباسينو”.

شهدت “تدمر” بعد سقوط مرافئها التجارية تباعاً أياماً موحشة، بعدما كانت قبلة القوافل والبضائع والأموال والرفاه وكعبتها، وكان الخطر يقترب يوماً بعد يوم، وكانت رائحة النيران التي التهمت دورا اوربس 256 م تزكم أنوف التدامرة، لكن ملك تدمر “أذينة” ابن “حيران” لم يترك ذلك الحبل يلتف على عنق مملكته، فعمل على جمع شتات القبائل العربية المحيطة بـ “تدمر” ( كتنوخ ومضر وطي والغساسنة واسد ونزار)،  وأعطى لكل قبيلة ما يتناسب مع احتياجاتها ومخاوفها، فأنشأ بنية سياسية متماسكة يشارك فيها الجميع على مبدأ تبادل المصالح لدرء الخطر الداهم ما ساعده على جمعها في جيش موحد.

رفض “سابور” محاولات “أذينة” كسب وده وتعالى على الصلح وأحرق “دورا اوربس” درة “تدمر” على “الفرات” وهزم “الرومان” في معركة الرها 260 م، وأسر الإمبراطور الروماني “فاليريان”، فكانت الحرب لزاماً، وانتصر فيها “أذينة” على “سابور” في ثلاث جولات في “الرها ونصيبين وحران وحاصر عاصمته طيسفون”، ودخلها مكلّلاً بالنصر ليصبح أسد الشرق ومخلّصه وشريكاً للقيصر الروماني في كافة ألقابه.
استطاع “أذينة” بدهائه أن ينتصر على الحصار الاقتصادي والتهديد العسكري ببنية سياسية وعسكرية قائمة على الشراكة، لأنه وّحد “تدمر” مع شركائها وأعطى لكافة الأطراف الفاعلة دوراً في مواجهة الحدث، أما “نبونائيد” ففشل في مواجهة الحصار الاقتصادي رغم أن “بابل” كانت عاصمة العالم القديم آنذاك، لأنه انفصل عن مجتمعه وخاض معه نزاعاً عقائدياً سياسياً في أحلك اللحظات عندما كانت جيوش “قورش الاخميني” تضرب الأرض بحوافرها استعداداً للهجوم .

اقرأ أيضاً: جبران ومريود.. وتجويع السوريين – حسان يونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى