الأزمة وطيبة البشر – ناجي سعيد
الالتزام بالسعر الذي يتناسب مع وضع الفقراء، يعني أنك لاعنفيًّا يحمل أنا أصيلة

“ومن يتهيّب صعود الجبال يعِش أبدَ الدهرِ بين الحفر”، يقصد الشاعر الناس الجبناء الذين يملأُ الخوف قلوبهم، فالخوف يؤثّر سلبًا بمفهوم الطيبة داخل الإنسان. وقد لا تكون هذه المعلومة مُستندة على حقيقة علميّة، ولكن وفق التجارب الحياتيّة يُمكننا أن نؤكّد بأن العنف هو الزيّ الذي يخفي مَرضَيْ الجُبن والخوف اللذان يُعيبان الإنسان.
سناك سوري-ناجي سعيد
القانون الذي يُصنّف الجرائم ليُفرّق بالحكم عليها، بين الجريمة المُتعمّدة (عن سبق الإصرار والترصّد) والجريمة التي يعتبرها عن غير عمد، هو قانون جاهل وأعمى! فلو أن القانون والمشرّعين، ألمّوا بفلسفة اللاعنف، وقرأوا كتابًا واحدًا مثل “نزع سلاح الآلهة” لجان ماري مولر-على سبيل المثال لا الحصر- لأيقنوا بأن طبيعة البشر “خيّرة” بأساسها، ولكنّ العوامل الأخرى المؤثّرة بتربية الإنسان هي التي تنضح خيرًا من داخل البشر، إذا ما كانت البيئة تربويّة حاضنة، وشرًّا إذا ما لم تكن ذلك.
وعلاقة “الحُفر” بمفهوم الطيبة مرتبط تمامًا بوجود الخوف عند الإنسان. ويمكن تشبيه الخوف بالرفش الذي يحفر في الداخل. فيصادف “الحفّار” بطريقه أثناء الحَفْر، العديد من المفاهيم السلبية. فالخوف مادة خصبة يُنتج عنها: الجُبن، الطمع، الحسد… إلى العنف. وكُل ما ذكرته، ليس إلاّ وحوش طفيلية صغيرة، تنمو على جذور الشجرة الأم وهي الخوف. فكما يقول المثل الإنكليزي: “الخوف يستجلب الوحوش”.
وهذا المسار طبيعي في حال اتّباع القلب. فمن يتبع قلبه لا يسترشد على الصواب والخطأ، بل يميّز فقط بين ما يُحبّ وما لا يُحبّ. وما لا يأخذه الناس على محمل الجدّ هو أن الطيبة وهي مفهوم لخير البشر، لا تمتّ بِصلة إلى التصرّف الخاطئ. فحين تساعد سيّدة مُسنّة، قد تخلّى عنها أولادها وتعطيها ثمن دوائها، فهذا نيّة طيبة لخير الناس، لكنّ عقلك الواعي، يُخبرك حين تنوي معاودة الكرّة (مساعدة السيّدة) فإنّك تساهم بهذا الشكل بتشجيع أولادها على الاستمرار في ارتكاب الخطأ. فَهُم المسؤول المباشر عن رعاية والدتهم.
اقرأ أيضا: حق المسؤول بالاستقالة – ناجي سعيد
وقد يخطر ببال القارئ، بأن الطيبة تُنتج مفهوم التكافل الاجتماعي، وقد سمعنا عن الكثير من المبادرات المجتمعيّة (شبابيّة ونسائيّة..) والتي تهدف إلى مساعدة الفقير ودعم المحتاج. ولكنّ، هل تعني طيبة البشر، وعدم خلوّ المجتمع من مبادرات إنسانيّة، السماح للنفوس الضعيفة بالاتكالية على الآخر؟ فلو أمعنت النفوس الضعيفة بالاتّكال، تُفضي بها الطريق إلى ارتكاب الجريمة لخدمة هذه الاتكاليّة.
نعم فمنظومة الخير هي كاملة داخل الإنسان ولا تتجزّأ. فلسفيًّا اللاعنف مفهوم كامل لا يتجزّأ عن باقي المفاهيم الخيّرة. اللاعنف مفهوم إيجابي شمولي حيث لا يمكن أن يكون الإنسان الطيّب لاعنفي ولكن.. فاللاعنف قيمة داخلية فلسفيّة، وليست استراتيجية تُستخدم عند الحاجة فقط.
وقد ابتكر المُفكّر اللاعنفي الدكتور وليد صليبي مصطلحين: الأنا الأصيلة والأنا البديلة. حيث بناء الأنا الأصيلة للذات الطيّبة اللاعنفيّة لا تتأثّر بالظروف الاقتصادية الخارجيّة. فلو تأثّرت بهذه الظروف، تُصبح كما سائق التاكسي يأخذ أكثر من التعرفة المُتّفق عليها كتسعيرة لأجرة السرفيس! فأناهُ البديلة تتجاوب مع غلاء سعر “تنكة البنزين” في السوق السوداء. لتصبح أناه صدى للأنا البديلة المُحتكرة لمادّة الوقود المُندرجة ضمن الحاجات الأساسيّة للإنسان. فالأنا الأصيلة الطيّبة تُصبح هنا خاضعة لظروف خارج الإنسان الطيّب.
أما السلوك البديل المواكب للأنا الأصيلة، هو التزام سائق تاكسي آخر (أناه أصيلة) بتسعيرة من المؤكّد أنها لا تكفيه، لكنّها تعكس تضامنه بالتكافل الاجتماعي، الذي يترجم شعوره مع الناس بأزمة غلاء لا قرار لها. أنا لا أعرف ظروف السائق ذو الأنا الأصيلة، لكنّ كل ما أعرفه هو وقوفه بوجه أزمة نافذة تُدمّر الأنا الأصيلة الطيّبة للإنسان. ببساطة هو سلوك عفوي يعكس مواجهة منظومة عنيفة جاهدة في تدمير الأنا الطيّبة اللاعنفيّة لأصالة البشر الخيّرة.
وهذا ما أورده جان ماري مولر بجزمه وتأكيده هذه الطبيعة الخيّرة! الطبيعة الخيّرة ليست فلسفة ولا تحتاج أمرًا مُتعبًا ومُضنيًا. بل هي التزام بسيط بروح البشر المُحبّة للخير. وكي تساهم في نشر الخير واللاعنف، التزم بالسعر الذي يتناسب مع وضع الفقراء، فتصبح لاعنفيًّا يحمل أنا أصيلة.
اقرأ أيضا: حافظوا على بيئة نظافتكم – ناجي سعيد