مطبخ أمي الحزين – لينا ديوب
الفلافل أيضاً ليست ناجية.. الحرب والفقر يهددان التراث اللامادي
إنها الثالثة ظهراً لآخر يوم من امتحاناتنا الجامعية قبل عدة أعوام خلّت، تمتزج برودة مدخل البناء الذي نسكنه مع رائحة محاشي أمي فننسى قلق الامتحان وحر الصيف، تتكثف رائحة الثوم والنعنع مع كل درجة صعوداً نحو باب بيتنا وكأننا على موعد مع فرح من صناعة الأمهات، صينية كبيرة من الكوسا والباذنجان والفليلفة الخضراء محشوة بالأرز واللحمة تنتظرنا، مع زبدية من حساء البندورة الذي طبخت به، لا نكاد نجلس حتى تفرغ الصينية نأكل ونتبادل الضحكات وشكر أمي على طبخها الشهي المتقن، وهي ترد ألف صحة وهنا.
سناك سوري – لينا ديوب
قبل أيام في ذروة موجة البرد الأخيرة، طلبت منها أن تعد لنا وجبة قمحية لأدعو أصدقائي الذين تذوقوها مرة وأحبوها، فاعتذرت مني قائلة إنها تحتاج لميزانية، أمي التي كان جزء كبير من حبها واهتمامها بأصدقائنا وجبة غداء، أو طبق حلويات، أو حصص من كعك العيد الذي تعده حتى خارج موسم الأعياد.
مستودع الذكريات الجميلة
نظرت إلى مطبخنا الصغير، الذي غيرته الحرب، أو لأقول مستودع الذكريات الجميلة، عندما كان ينشغل كل من أمي وأبي لساعات طويلة في إعداد الطعام للأقرباء والأصدقاء، جدتي وخالاتي في أول يوم من رمضان في بيتنا، زوج صديقة أمي المسافرة الذي كان يجالسها وهي تعد له وجبة الأرز بالبازلاء التي يقول إنها أمهر من يعدها، منهم من غيبته الحرب بالموت، أو هجّرته لتبقى ذكرياتهم وتعليقاتهم على نكهة مميزة لهذه الوجبة، ومقدار لحم مناسب لهذا الطبق.
اقرأ أيضاً: السوق جانن سامحونا.. الأسعار لم تعد تخجل كذلك نحن!
يكبل الغلاء اليوم أمي، يقيد رغبتها ويمنعها عما ألفته لسنوات طويلة خلت بإعداد الوجبات المليئة بالخضار واللحمة والدجاج، وأنواع المربيات والمخللات والمكدوس والكشك، التي تقدمها هدايا لمن يزورها في موسم إعداده.
زيت الزيتون بالقطارة
مطبخنا كغيره من مطابخ السوريين والسوريات مع الواقع الصعب، والغلاء الفاحش، استغنى عن الكثير من الأطباق إن لم أقل معظمها، تقول أمي:« إن طبخة يبرق إذا أردت اعدادها على أصولها، تحتاج راتبي لشهر كامل»، و تضيف: «زيت الزيتون البلدي أو السمن البلدي، الذي كان من البديهي توفره في البيت وبكميات كبيرة كمونة لسنة كاملة أصبحنا نستخدمه بالقطارة».
الفلافل ليست ناجية
اقترحت احدى الصديقات أن نستبدل دعوة الأهل والأصدقاء على الغداء، بدعوة على الفطور يقدم الأصدقاء لبعضهم وجبة الفلافل الشهية، إلا أن الفلافل أيضاً ليست ناجية من الغلاء وكلفتها العالية تمنع من إعدادها حتى لأهل البيت، مع غلاء البقوليات وفي مقدمتها الحمص، وزيت القلي، والخضروات الورقية التي نحتاجها لإعدادها كالبقدونس والكزبرة فقد وصل سعر الحزمة الواحدة إلى خمسمئة ليرة سورية.
اقرأ أيضاً: ارتفاع الأسعار يحرم مواطنين من التحضير لرمضان.. الشراء كل يوم بيومه
التراث المهدد
المطبخ السوري المتنوع بتنوع الثقافات التي عاشت في “سوريا”، أصبح مهدداً اليوم كحامل لامادي لهذا التنوع، مع النزوح والفقر الذي يعيش تحت وطأته اليوم أكثر من 80% من الشعب السوري.
الباحث الراحل “حسّان عبّاس” الذي اهتم بالتعريف ببعض مكوّنات الخريطة الثقافيّة السوريّة، تحدث عن المطبخ السوري وتنوعه كجزء من التراث اللامادي في سوريا بالإضافة للموسيقا التقليديّة، والرقص الشعبيّ والدينيّ، والممارسات الاجتماعيّة، والطقوس، والاحتفالات، والحِرف التقليديّة، ولعب الأطفال. وقال:« إن المطبخ السوري هجين بين النباتي والحيواني ويغنيه غنى الغطاء النباتي خاصة في فصل الربيع».
الباحث “عباس” الذي قدم سلسلة فيديوهات عن التراث اللامادي من بينها اثنين عن المطبخ السوري بهدف تعزّيز التنوّع الثقافيّ والفكريّ، ولتغطّي جزءاً من احتياجات تطوير المعارف حول التراث اللامادي السوريّ، للسوريين والسوريات في مختلف أماكن وجودهم للحفاظ على ذاكرتهم الجمعيّة، قدم مادة علمية ربما لا تعوض عن الجانب العاطفي، إذ لطالما كان الطعام تعبيراً عن الأمومة والحب والاهتمام، عبر زوادة للزوج إلى عمله، أو دعوة لأصدقاء الأبناء على وليمة مليئة بالأطعمة التي تناسب أذواقهم، أو سكبات للجارات في المناسبات أو بدونها.
لم تعد القدرة الشرائية تسمح بهذا النوع من الحب والفرح، لم تعد الروائح الجاذبة على بعد أمتار تنتشر في مداخل البنايات، بات المطبخ حزين.
اقرأ أيضاً: في 2021.. لا شيء نجا من رفع الأسعار حتى الخبز