سناك سوري – كمال شاهين
في 15 شباط من العام 1999 نجحت وحدة استخبارات إسرائيلية باعتقال عبد الله أوجلان بعد استدراجه للخروج من مقر إقامته المؤقت في السفارة اليونانية في نيروبي، ومن ثم نقلته طائرة تركية كانت تنتظر نهاية العملية إلى أنقرة ليخضع هناك إلى محاكمة صورية حكمت عليه بالإعدام لكن التدخلات الأوربية حولته إلى سجن مؤبد.
يوم اعتقال “آبو” وهو اسمه المشهور بين الكُرد، تحوّل إلى يوم غضب كردي مستمر حتى اليوم، فالحياة تتعطل كلياً في مناطق التواجد الكردي في سوريا، أما في العراق فإن حزب العمال الكردستاني يقيم الاعتصامات والتظاهرات للتنديد بجريمة الاختطاف واعتقال المؤسس الفعلي للحزب، ذاك اليوم أعلن رئيس الوزراء التركي “بولاند أجاويد” الخبر بنفسه للعالم.
أوجلان يكمل في سجن “إيمرلي” عامه الثاني عشر ولكنه لم يغب عن الساحة الكردية ولم يبهت تأثيره على الكرد ممن حولوه إلى أيقونة نابضة بالحياة، ولا على قواعد حزبه ـ المسلحة التي حملت اسماً لطالما أثار قلق أنقرة وغيرها: PKK (حزب العمال) ـ إذ رفعت “قوات سوريا الديمقراطية” صوره في مدينة الرقة التي دخلتها بعد معارك مع تنظيم داعش، ويشكل حزب العمال النسبة الأكبر في هذه القوات.
أثارت هذه الصور السياسيين الأتراك المتوجسين كثيراً من تحركات قوات سوريا الديمقراطية منذ دخولهم فضاء الأزمة السورية بقوة، وذهبت بهم حد التصريحات النارية أن قوات التحالف الدولي ووراءه الولايات المتحدة “كاذبة” في كل ماتعلنه بشأن الكرد، فقد قال المتحدث باسم الحكومة التركية بكر بوزداغ، خلال تصريح للصحفيين، إن صورة أوجلان التي رُفعت في الرقة “كذبت كل ما قالته الولايات المتحدة الأمريكية حتى يومنا هذا”، وأضاف بوزداغ أن “المنظمة (PKK) من خلال تعليقها الصورة كذبت أمريكا القائلة: نحن لا نتعاون مع الإرهابيين، وليس هناك إرهابيون، بل توجد قوات سوريا الديمقراطية”، وكالة الأناضول التركية سألت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) “دانا وايت”، عن تعليق صور أوجلان في الرقة، إلا أن الأخيرة امتنعت عن الجواب، واكتفت المتحدثة الأمريكية بالقول: “نعمل مع قوات سوريا الديمقراطية (بي واي د/بي كي كي) ودعمناهم في حربهم ضد تنظيم داعش، والتزامنا الوحيد هو محاربة داعش وسنواصل فعل ذلك”.
عبر تاريخه شكّل أوجلان ظاهرةً سياسية وعسكرية مختلفة عن غيرها من الظواهر والشخصيات المماثلة، فالرجل المولود عام 1948 الذي لم يكمل تعليمه الجامعي في الاقتصاد السياسي في جامعة أنقرة بسبب اعتقاله لشهور سبعة على خلفية نشاطاته اليسارية، استطاع أن يؤسس تنظيماً شدد في آليات عمله على الابتعاد عن الارتهان للسياسات القومية لدول الشرق الأوسط كما ذكر ذلك في مرافعاته أمام مجلس حقوق الإنسان الأوروبي إبان محاكمته وفي كتبه أيضاً.
حتى العام 1998 بقي أوجلان قائداً لحزب العمال الكردستاني في سوريا يمارس عملياته انطلاقاً من الحدود السورية التركية وأحياناً من مناطق أخرى في العالم، ومع تدهور العلاقات السورية التركية إثر ازمة المياه نهاية عام 1998 هددت تركيا سوريا علناً بأنها ستجتاح أراضيها طالما بقي فيها “أوجلان”، على إثر ذلك غادر أوجلان سوريا ولم تسلمه إلى السلطات التركية.
توجه أوجلان إلى روسيا أولا، ومن هناك إلى اليونان ثم إلى إيطاليا التي طالبتها تركيا بتسليمها إياه فانتقل إلى هولندا التي هي الأخرى طلبت منه المغادرة، فغادرها إلى كينيا حيث أقام في السفارة اليونانية باعتباره كان يحمل جواز سفر قبرصي.
إصرار أوجلان على بقاؤه بعيداً عن التكتلات السياسية والقومية لم يجعل له ولا لحزبه أصدقاء دائمين له في عالم تتغير مواقفه السياسية تبعاً لتغيراتها الاقتصادية، الأمر الذي جعله موضع شخص غير مرحب به في كثير من الدول حتى تلك التي يتبنى أيديولوجياتها الحاكمة (روسيا وقتها)، وهو أمر أضاف لرمزيته بين الكرد حضوراً أوسع مما كان بمقدوره فعله على الأرض، إذ أنه تحول وفقاً أيضاً لقوله إلى “برومثيوس” المقيد بصخرة كبيرة ومطلوب منه أكثر مما يستطيع في عالم متغير بين لحظة وضحاها.
كان أوجلان ـ وما زال ـ الزعيم الكردي الأقوى والذي ينظر له متابعون على أنه يدرك جيداً موازين القوى الموجودة في مشهد الشرق الأوسط، فقد طرح في العام 1999 من سجنه مبادرة لحل المسألة الكردية في تركيا تقوم على الاعتراف بحقوق الأكراد الأساسية ومنها اعتبار الكردية لغة ثانية في البلاد وعدم فرض التتريك على البلدات والقرى الكردية (وهي إجراءات قامت الحكومة التركية لاحقاً بتنفيذ أجزاء منها مثل فتح قناة تلفزيونية ناطقة بالكردية).