الدوائر الحكومية في عصر التحول الرقمي.. للأسف سافرت ولم أشهدها
بعد أخذ وردّ وطول انتظار.. وقّعت الورقة وحضنتها كمن وقع ورقة إخلاء سبيله
“وأخيراً وقّعت الورقة” رسالة تصلني من صديقة لي في سوريا بينما أنتظر لمدة خمس دقائق في صالة مكيفة. للحصول على هوية مقيم في الإمارات العربية المتحدة. وباعتبار أن التحول الرقمي قيد التطبيق في بلادنا منذ عام 2020 حتى اللحظة. فالصبر على معاملات الدوائر الحكومية هو المنفذ الوحيد بينما يغير الله الحال.
سناك سوري- ميس الريم شحرور
“هل يعقل أن تقطع الشبكة في بلد تتحول رقميّاً؟“. استفسار مشروع تسأله صديقتي وهي مهندسة معلوماتية، ويبقى معلّقاً في الهواء بانتظار الإجابة. تحكي لي الصديقة مغامرتها بشيء من الفكاهة والسخرية والأسى. فأحتار هل يجب أن أحبّ الغربة أسوة بما يعانيه أهلي وأصدقائي في الوطن؟. وتقديراً للنعمة التي تغمرني حينما أقدّم معاملتي إلكترونيّاً في الصباح فتصلني ورقياً إلى مكان سكني في الظهيرة؟.
تسهب تلك الصديقة في الشرح: “كنت أدفع اليوم رسم التسجيل الخاص بالامتحان الموحد للهندسة المعلوماتية. حينما وقعت عيناي على طابور من الشباب. لوهلة اعتقدت أنّ مصارف البلاد تستعيد مجداً تليداً حيث ولد الدينار العربي في نهاية القرن السابع عشر. قبل أن أنتبه إلى أن الطابور هو لطلاب يدفعون رسوم السكن أو التسجيل الجامعي. وأن شخصاً واحداً يمجّ سيجارته _حاله كحال كلّ الموظفين الذين يجلسون قبالته_ يخدّم كلّ هؤلاء. فيعمّ الدخان الأرجاء وما عليك سوى أن تصبر.”
لو أن القانون يعلو فوق الجميع!
تضيف الصديقة “تأتي فتاة من آخر الصف وبابتسامة غنج ودلال و”5000 ليرة” تسبقنا جميعاً. بمقابل رجل طاعن في السن يتوجب عليه دفع “1400 ليرة” فينتظر حتى ينهي “30 اسماً” قبله أعمالهم. وللمفارقة أنّ الانتظار في الدول المتحضرة يسري على الجميع وهو ما كنّا سنقبله لولا فرق جوهري في أنّ “القانون هناك يعلو على الجميع”.
وما يزيد صبري ويخفف أحزاني المثل الذي رأيته يطبق حرفياً أمامي. تقول الصديقة: “اللي بيشوف مصيبة غيرو بتهون عليه مصيبتو”. حينما جاءت صبية تستفسر ماذا تفعل لأن أحد الموظفين أضاع هويتها في وسط هذه المعمعة الحاصلة أدركت أنني بخير رغم ساعات الانتظار لدفع مبلغ “15 ألف”. إذ سيتوجب على تلك الصبية الدوران في فلك التحول الرقمي من جديد والتقديم على بدل ضائع. تردف صديقتي.
النهايات السعيدة
في هذا المسلسل الهندي الطويل كان عليّ أن أجمع أشيائي وأرحل قبل أن يطول الأمر وتأخذنا الحال إلى حبكة لا تحمد عقباها. جمعت أشيائي وتقدّمت نحو الموظف الذي أعطاني الورقة مكتفياً بنظرات العتب. عتب ربّما أدرك في سرّي أسبابه وسأمتنع عن ذكرها لئلّا أحبط عزيمة الأمة.
لكنني في النهاية السعيدة “وقعت الورقة بعد دفع المبلغ، ومن شدة فرحي نزلت إلى القبو قبل أن أنتبه إلى الباب على يساري، حيث رأيت السماء أخيراً”. وفي داخلي صوت ينادي “متى أرى سماء الغربة”. فيردّ الصدى “قريباً جدّاً”. تنهي الصديقة رسالتها بأمنيات لي بألا أعود إلى البلاد إلا لزيارة أهلي. وأن أنتظر ريثما ينتهي عصر التحول الرقمي ونعود إلى العصر الحجري بعد عام أو عامين. لخوض مغامرة السفر عبر الزمن.