ماذا لو ابتلع البحر طفليك الصغيرين أمام عينيك.. قصص حدثت بالفعل
من ذاكرة الهجرة السورية في اليوم الدولي للمهاجرين
يصادف 18 كانون الأول اليوم الدولي للمهاجرين، ففي عام 2020 بلغ عدد المهاجرين الدوليين زهاء 281 مليوناً، أي ما نسبته 3.6 في المئة من سكان العالم.
سناك سوري – شعيب أحمد
في “سوريا” أجبرت الحرب الكثير من السوريين على مغادرة بلادهم، في أكبر موجة نزوح منذ الحرب العالمية الثانية، إذ لا توجد دولة حول العالم تقريبا، لم تطأها قدم سوري خلال السنوات العشر الأخيرة، والمؤسف أن موجة الهجرة والزحف البشري الذي عماده الشباب والكفاءات لازال مستمراً حتى اليوم.
التقى “سناك سوري” ناجين من الهجرة، تحدثوا بعيون مجبولة بالألم والحنين والوحشة عن طريقهم، طريق كل السوريين كانوا ولا زالوا ويبدو أنه سيبقى طريق آخرين كثر لازالوا يتجهزون له بكل أسف.
أيهم – كانون أول 2015
“حين يغرق السوري في المتوسط تتحول السماء إلى ماء”
– حَمَلنا غالون ماء حبيس في بطن القارب، فتحول القارب إلى سترة نجاة بفضل من الله، لولا ذاك الغالون لغرق القارب وغرقنا معه، على ظهر القارب أخرج “عامر” من جيب سترته علبة تبغ، حاول تجفيفها من الماء المالح، أخرج قداحته، لم تكن لتشتعل، نفخ بها، كشط دولابها على بنطاله الجنز، اشتعلت أخيراً، وزّع سجائره على الطافين معه، استعرنا قدحاً من سيجارته لسجائرنا، إنها آخر سيجارة لنا، وهذا البحر المتسخ بالجثث هو مرمدة سجائرنا، ومرمدة لخوفنا.
هل قطعنا كل تلك المسافة لنموت هنا، لو قيل لي قبل شهر فقط أنني سأموت غريقاً في قلب المتوسط لضحكت لمقولتهم.
كان “عامر” أكثرنا غرقاً بالحزن والخيبة والخوف، كلنا كنا خائفين، لا مرجلة في الموت، مع فقدانه الأمل قال لنا تعالوا لنتسامح، لنتصالح مع الله، لنكفّر عن خطايانا الفائتة، بالفعل، توضأنا، صلينا كلٌ في مكانه، قلّبنا وجوهنا لقبلة تراضينا عليها، ثم أطلنا السجود، يا إلهي، كم كنا حمقى، هذه الحياة القصيرة لم نستغلها، لمَ لمْ نكملها بقرب من أحببناهم، بقرب أولادنا وزوجاتنا وأمهاتنا، لم يعد هناك مهرب، ستغرب الشمس بعد قليل وسيغرق مركبنا لا محالة.
سمعت نشيج بعض الساجدين، حاولنا مواساة بعضنا. لهذا حاول شاب لا أعرفه المزاح مع “عامر” كي يكسر هذا الوقت اللئيم: “أتعلم؟ الجميع بالضيعة قالوا إلي إنك نحس وما صدقتهم”، ابتسم الجميع بلا طاقة لكلماته، أما “عامر”، فقد حاول لجم مافي قلبه، لكنه انفجر باكياً كطفل في الثالثة، تناوله صديقه المازح وضمه الى صدره عربون اعتذار، وراحا ينشجان كالأطفال. تراخت قوة “عامر” فجأة، فسقط مغشياً عليه. وماهي ساعة حتى طالتنا فرق الإنقاذ الليبية بعد 13 ساعة من التيه في البحر.
اقرأ أيضاً: شاب سوري دفع 4000 دولار للمهربين ولم يصل وجهته!
عادل – آب 2021
“لك أن تتخيل كيف لكرة أن تنقذك”
– إنقلب المركب فقذفتنا ردة فعل تأرجحه لبضعة مترات في البحر، أنا لا أجيد السباحة، كان رأسي مقلوباً للأسفل، تخبطت بيداي حتى اعتدلت على قدماي ورأسي في الهواء، على بضعة أمتار رأيت إحدى الكرات الطافية التي تم وضعها لتحديد الحدود الدولية، طفيت نحوها متخبطاً ثم تعلقت بها كطفل يتعلق بأمه.
كان القارب على وشك الغرق، أراقبه وهو يغرق رويداً رويداً، النساء والأطفال يبكون، يناشدون الله لا غير، رفاقي هناك يتخبطون في الماء مثل الفراش العالق بالزيت. أشحت وجهي بعيداً كي لا تخار عزيمتي برؤياهم يموتون.
بعد قليل صاح شاب من “درعا” يرتدي سترة نجاة، بدا ماهراً في السباحة، قال لي “هيه أنظر إلى الأسفل، أترى، إنها خطوط البترول، إنها قادمة من “ليبيا” وتتجه إلى “إيطاليا”، إن لحقنا بالأنبوبة سنصل” إيطاليا”، ليست المسافة بعيدة. إن أردت اتبعني إن بقينا هنا سنموت”.
نظرت إلى الأفق، أين “إيطاليا” التي يتحدث عنها هذا المجنون، وأنا بكل بلاهة سمعت قوله، لأنني أدركت ماذا يعني أن يتعلق الغريق بقشة، قفزت خلفه وبدأت أضرب بيداي الماء بلا معرفة، وماهي دقيقة حتى جرفتني المياه بعيداً، قُطعتْ سترة نجاتي الضيقة، فتراجعت مسرعاً إلى كرتي قبل أن أغرق، كدت أغرق بالفعل.
لقد تعلقت بتلك الكرة وحلفت ألا أتركها حتى يجد أهلي جثتي عليها.
هل تابعت فيلم Cast Away ياسيدي؟ لتوم هانكس؟ إنها في رمزيتها تشبه كرة هانكس، لك أن تتخيل شعور أن تنقذك كرة، أن تتعلق بتلك الكرة الطافية في الماء ليوم ونصف، فتكون أمك وحبيبتك وابنك؟ ثم حين تدرك أنك ميت، يأتي من ينقذك.
ليتني استطعت أخذ تلك الكرة معي. إنها في بلاستيكيتها حنونة أكثر من البشر الذين دفعونا لاتخاذ هذا الطريق المميت.
اقرأ أيضاً: إنقاذ 9 مهاجرين سوريين من الغرق في طريقهم إلى قبرص
أحمد – آب 2021
“طيران من طيور الجنة”
– كانت حافة البلم حافة للماء، أي مويجة صغيرة كانت تجدف بالماء إلى قلب البلم، عددنا كبير، والوزن الزائد للحمولة البشرية هي السبب في وصول الماء إلينا بسهولة، بعد سويعات ارتطمت بنا موجة كبيرة، انقلبنا في الماء، كنت أرتدي سترة نجاة ودسست جسدي بدولاب مطاطي، زوجتي كذلك، كنا نعلم أننا لربما سنغرق، سارع الجميع إلى قلب البلم وبالفعل تمكنوا من قلبه، صعدنا على ظهره تباعاً.
أذكر أن سيدة من “حمص” كان لديها توأم فتيات بعمر الستة أشهر تقريباً، لازلن صغاراً، حين صعدتْ إلى البلم كانت تصرخ بفزع. ولأن البلم لم يعد يحتمل وزناً كبيراً تعلًق الشبان على طرفه ونصفهم في الماء، أما النساء والأطفال فقد صعدنا إلى ظهر البلم. كانوا قرابة خمسة عشرة فتاة وطفل، مع ذلك لازال البلم ينخفض مستواه. ولازالت السيدة تصرخ، لقد فقدت طفلتيها في الماء، تفرّق الشباب باحثين عن الطفلتين، لعدة ساعات وهم يبحثون، وحين قالوا لها أن لا أثر لهنّ، تراخت وسقطت من الخوف ومن تعب البكاء والانتظار.
كانت تستيقظ كل بضعة دقائق كالمجنونة، تسأل “لقيتو صفا ومروة؟ .. وين حبيباتي”، ثم يغمى عليها من جديد. علمت لاحقاً أن تلك السيدة المسكينة قد فقدت زوجها أيضاً في “حمص”، لقد تم قنصه، وأن أربعة إخوة لها قد قتلوا أيضاً، لهذا قررت الهرب والنجاة بطفلتيها. لكن قدر الله ألا ترى هاتين الطفلتين قساوة البشر، وأن تبقيا طيران من طيور الجنة”.
اقرأ أيضاً: مهاجر سوري التقى أمه بعد 12 عاماً وأضاع والده على الحدود
ريم – آذار 2014
“على أمل لقاء الأحبة”
– حين اشتدت المعارك في مخيم “اليرموك” وسط العاصمة، قرر “أكثم” الهجرة، كان من بين الأوائل على دفعته في كلية الطب البشري، أنا أعرفه كما أعرف حالي، إنه صديقي، لم يستطع إكمال دراسته بفعل الحرب، فركب ساقيه وهاجر، حين وصل “تركيا” أبلغني أنه سيجتاز البحر وصولاً إلى “اليونان”، وهناك كان اليونانيون يستقبلون السوريين برحابة، لهذا قال لي “بضعة كيلومترات من الماء ونصل بإذن الله”.
أغلق هاتفه وأخبرني أنه حين يبلغ الضفة سيطمئنني على حاله. ومنذ ذلك اليوم وأنا أتصل به، ومنذ ذلك اليوم وأهله يحاولون الاتصال به، ويبحثون عنه أو عن أي طرف خيط يوصلهم إليه. هم يعلموا أن البحر ابتلعه كما ابتلع الآف السوريين غيره، لكننا في سوريا نعيش على أمل لقاء الأحبة، فلولا الأمل لوجدتنا صرعى وميتين من زمن”.
اقرأ أيضاً: تعلَّق بالقارب 13 ساعة…. أحد الناجين يروي تفاصيل غرق قارب لمهاجرين سوريين