سوريا التاريخية… من أين أتى أكيتو بريخو وماذا يمثل للسوريين؟
من انبثاقات هذا العيد أن أصحاب الطرق الصوفية كانوا يطوفون بمواكبهم شوارع المدينة وضواحيها
سناك سوري-حسان يونس
قبل سنوات خلت لم يكن لآكيتو “رأس السنة السورية” أي حضور في وعينا العام، لكن أمرا ما تغير بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وصدمة السنوات الماضية، فاحتفلت وزارة السياحة السورية عام 2019م برأس السنة السورية من خلال “مهرجان الخبز” الذي نظّمته مديرية سياحة دمشق في خان أسعد باشا (1 -3) نيسان، كما أقامت مديرية سياحة “طرطوس” بالتعاون مع اتحاد الحرفيين معرضا للمهن اليدوية والحرف التراثية التي تشتهر بها المحافظة وأمسيات فنية وموسيقية تحاكي تراث الساحل السوري، وعلى ذات المنوال أحيت مجموعات شبابية الآكيتو بعروض فنية في أماكن مختلفة، وأصبح تبادل المعايدات في هذه اليوم أمرا شائعا.
بدأت حكاية أعياد الربيع وفق بعض المصادر (الألف الرابع –الألف الخامس ق . م) عند السومريين باسم (زاكموك، Zag-mug)، وأما الأكاديون وهم ورثة الإرث السومري، فقد اختاروا له تسمية (راش شتيم، rêššattim ) أي رأس السنة، بالإضافة إلى آكيتو والتي تعني الاحتفال، والتي يقابلها في الآرامية والعربية (حِجتو، حج)، وتعني كلمة (حج) في اللغة الآرامية الاحتفال، وأما تسمية (نيروز، اليوم الجديد) فهي ترجمة فارسية حرفية للاسم السومري (زاكموك، Zag-mug).
تعكس هذه المناسبة في معانيها العميقة عقيدة الخصب، والولادة المتجدّدة وانبعاث الحياة من الموت، واستمرارها وفقا لعلاقة تعاقدية بين الإله والإنسان تتجدّد سنويا مطلع كل ربيع في شهري آذار ونيسان، كما تعكس العلاقة الجدلية بين الذكورة والأنوثة والموت والحياة، وهي معاني كانت تؤدّى مسرحيا في سومر وبابل على مدار أحد عشرة يوم، ومن ثم انتشرت وتناثرت على امتداد الهلال الخصيب بكل تلويناته الثقافية وامتدت إلى خارج الإقليم في فارس ومصر من خلال التأثير الثقافي المتبادل وارتحال الجماعات بين الأقاليم.
اقرأ أيضاً: رأس السنة السورية هل نعرف حضارتنا جيداً؟
إن ما ترويه مناسبة آكيتو طقوسيا تمت صياغته تعبيريا في ملحمة جلجامش وطائر الفينيق وسواهما، ولا نزال نعيشه طقوسيا في القرابين والأعياد الدينية التي تمثّل تجديدا لعلاقة تعاقدية بين إنسان تائه وإله مجهول.
علاقة الإنسان مع الطبيعة، ومع الربيع، ومع انبلاج الحياة هي علاقة ثابتة توحّد البشر، أو أقلّه توحّد أبناء هذا الإقليم الذين لا يزالون يتضرّعون إلى الطبيعة ضمنا في رموزهم الثقافية الغائرة، وهي علاقة تتوسّل تجدّد الحياة والبقاء، خاصة في عالم يعجّ بالكوارث واحتمالات النهاية المفاجئة، كما يؤكّد وباء الكورونا المستجد.
لقد كان قدامى سكان الهلال الخصيب على وعي مبكّر باحتمالات الكارثة، فخرجوا في مطلع الربيع وأدوا صلاة طقوسية على مدى إحدى عشرة يوم طالبين من الله أن يمنحهم بداية جديدة كل عام، ولا يزال هذا الوعي المبكر وهذا التضرع الباحث عن بداية جديدة مستمرا في أعياد مشتقة من آكيتو، مثل عيد النيروز الفارسي وعيد النيروز الكردي، وعيد السنة الجديدة (سر صالي) في أول أربعاء من نيسان لدى الطائفة الايزيدية، وهو كذلك أعياد الزهورية (الرابع) في 17 نيسان التي استمرت في الساحل السوري حتى الستينات.
اقرأ أيضاً: سوريا التاريخية… وباء انتشر في البلاد عام 1743 وهذا ماحصل
كذلك في عيد (عيد البنجة ـ برونايا) في شهر آذار لدى المندائيين المقيمين بالعراق، وعيد شم النسيم في مصر، كما أن مدينة حمص كانت في مطلع الخمسينات مسرحاً لاحتفالات أعياد الربيع التي تمتد إلى سبعة أخمسة متتالية موزّعة على شهري آذار ونيسان وتبلغ ذروتها عند طواف أصحاب الطرق الصوفية بمواكبهم في شوارع المدينة وضواحيها، وكذلك فإن عيد الأم هو أحد انبثاقات آكيتو باعتبار الطبيعة هي الأم الكبرى ممثّلة في شخصية الإلهة الأم إنانا- عشتار، وحديثا أعادت التيارات القومية الآشورية والسريانية في العراق وسورية إحياء عيد آكيتو في أول نيسان تحت مسمى (رأس السنة الآشورية، السريانية، الكلدانية، البابلية) في نوع من التشظّي العبثي الماجن.
إن هذه المناسبة في جذورها التاريخية وتجلياتها المتعددة والمتضاربة تعكس حالة أشمل، هي حالة التجزئة، أو الأسرة المشتتة، أو المرآة المتشظّية، ذلك أن تشظّي آكيتو إلى طقوس عديدة لدى جماعات عدة لا تدرك الوحدة الثقافية التي تجمعها، والجذر الروحي الواحد الذي تتفرّع عنه اعتقاداتها، هذا التشظّي نجده كذلك في اللغة التي دأب المستشرقون على تقسيمها إلى لغات منفصلة عن بعضها أكادية وبابلية وآشورية وآرامية وسريانية وعربية، ونجده كذلك في التبعثر الجغرافي والسياسي الذي نعانيه منذ مائة عام، فهل نستطيع في هذا اليوم المبارك يوم الوحدة مع الطبيعة، والأمل بالحياة القادمة، هل نستطيع أن نلملم شظايا أصولنا الثقافية ونعيد تشكيل المرآة السحرية التي تعكس أقرب صورة لتاريخنا وربما لمستقبلنا.
اقرأ أيضاً: سوريا التاريخية.. نساء صانعات سلام -حسان يونس