نعود عدة آلاف من السنين لنرى صورة أحداثنا المعاصرة في مرآة الأحداث التاريخية الكبرى
سناك سوري – حسان يونس
في زمن يفيض بالاضطرابات والانقلابات والنزاع بين الحكام والجيش والكهنة ومصطلحات الربيع والخريف العربي نعود عدة آلاف من السنين لنرى صورة أحداثنا المعاصرة في مرآة الأحداث التاريخية الكبرى.
في عام 556 ق.م وصل إلى حكم بابل الملك “نبونئيد”، وكانت أمه كاهنة معبد القمر في حران، أقصى شمال سورية (تحتلها تركيا حاليا).
والمعروف أن “نبونئيد” واجه “مشكلة دينية”، فبدأ في 553 ق.م بترميم معبد إله القمر في حران، -وهو الإله الحامي لمدينة أور ومدينة والدته حران-، أراد جعله إلها أعلى لجميع رعايا الدولة البابلية، في محاولة لإيجاد قوة دينية موحدة لرعايا الدولة، حيث لم يكن لـ(مردوخ)، الإله القومي لبابل حضور في مراتب الآلهة لدى الآراميين والعرب، وفقا للبحث المعنون (العلاقات الكلدية الفارسية في العصر البابلي الحديث 626-539ق.م … م.احمد حبيب سنيد الفتالوي)، وبحسب هذا البحث وأبحاث أخرى أثارت سياسة “نبونئيد” استياء سكان بابل ولارسا والوركاء ونيبور وبورسيبا في جنوب ووسط العراق بقيادة الكهنة، وعلى الأخص كهنة الإله مردوخ، اللذين رفضوا المشاركة في إعمار معبد الإله سين.
اقرأ أيضاً: الحصار عبر التاريخ.. بابل وتدمر نموذجاً- حسان يونس
انتقل “نبونئيد” 553 ق.م من بابل إلى تيماء، شمال غرب الجزيرة العربية، وأقام فيها عشر سنوات متتالية لأسباب يرجّح الباحثون أنها اقتصادية لا دينية بغية السيطرة على خط التجارة القادم من جنوب الجزيرة العربية والمار بالحجاز وحصن تيماء إلى سورية شمالا، وهو الخط الذي سيرد ذكره بعد ألف عام من ذلك في القران الكريم في سورة قريش “لإيلاف، قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف”، وخلال هذه المدة انقطع “نبونئيد” عن بابل وعن أداء دوره في احتفاليات السنة البابلية الجديدة، حيث يمثّل خلالها الإله مردوخ ضمن طقوس الزواج المقدّس التي تجمعه بعذراء تمثل الإلهة عشتار، فينتج عن هذا الزواج الخصب والنماء المتجدد كل عام.
في سنة 542 ق.م عاد نبونئيد الى بابل بعد وصول أخبار عن حشود فارسية حولها، ليواجه نقمة الشعب والكهنة والأوضاع الاقتصادية السيئة، وفوضى الحكم، وأطماع كورش الأخميني الفارسي، الذي أحسن استغلال تناقضات الدولة البابلية، وأقام علاقات مع كهنة بابل ومع بعض قادة الجيش البابلي ما سمح له بدخولها دون قتال في 539 ق.م .
كان النزاع الداخلي في بابل أكثر حدة من الخطر الخارجي، ولم يكن الجيش والكهنة البابليون موحدين حول فكرة إنقاذ الدولة البابلية، وقد أطلق الصراع الديني بين كهنة مردوخ ومشروع نبونئيد الديني الجديد طلقة الرحمة على الدولة البابلية الحديثة، كما أدخل هذا الصراع منطقتنا كليا تحت هيمنة النفوذ الخارجي المستمر منذ سقوط بابل 539 ق.م.
شهدت مصر نزاعا مشابها خلال حكم أخناتون (امنحوتب الرابع) من الأسرة الثامنة عشرة (1351-1335 ق.م)، وبحسب “محمد بيومي مهران” في كتابه “أخناتون عصره ودعوته، 1979” حاول أخناتون أن يرفع من شأن الإله آتون على حساب الإله آمون، وعندما صار ملكا غيّر اسمه في العام السادس من حكمه من أمنحوتب الرابع إلى أخناتون أي “المفيد لآتون”، ونقل عاصمته من العاصمة التاريخية طيبة (مدينة الإله آمون) إلى مدينته تل العمارنة، وبحسب “جيمس هنري بريستد”، في كتابه “فجر الضمير”، فان هذا التوجه لدى المصريين تزامن مع انتقالهم في عهد خلفاء أحمس، وبخاصة تحتمس الثالث، من حالة الدولة إلى حالة الإمبراطورية، وامتداد مناطق نفوذهم إلى الشام والعراق والأناضول، فأدركوا فكرة “عالمية الدولة”، واحتاجوا إلى إله أكثر شمولية من آمون (وهي حالة مشابهة للمشكلة الدينية في بابل)، وهو ما يوفره آتون (قرص الشمس) الذي يسطع على العالم كله.
اقرأ أيضاً: الديمقراطية التي ارتكبها أجدادنا ونجحوا فيها _ حسان يونس
واجه أخناتون معارضة من كهنة آمون وللمفارقة دعمته زوجته “نفرتيتي” فيما لعبت “تيي”، والدته دورا معاكسا لدور والدة “نبونئيد” فآزرت “كهنة آمون”، وشاركت في انقلاب نفّذه الكهنة والنبلاء والقادة الساخطون على ابنها، فأعادوا إحياء عبادة آمون في طيبة، وقتلوا الملك “سمنخ كا رع” (1335-1334 ق.م) شقيق “أخناتون” وشريكه في الحكم ووريثه واستمر هذا الصراع ليحسم لصالح الإله “آمون” ولصالح وحدة واستمرار الدولة المصرية في عهد الملك الشهير توت عنخ آمون (1334-1325 ق.م)، الذي يرجّح الباحثون انه اغتيل وكان ضحية لتحالف كبير كهنة آمون “أي” وقائد الجيش “حورمحب”.
خلال المشكلة الدينية التي واجهتها مصر تضاءل النفوذ المصري عن الجناح الآسيوي الممتد في سورية وعاد التهديد الحثي لمصر من الشمال.
لكن على النقيض من بابل كان الجيش المصري أكثر ولاءاً لفكرة الأمة المصرية، ممثّلة في إلهها القومي، وفي أمنها القومي، وفي أعدائها الخارجيين وضرورة مواجهتهم قبل كل شيء، لذلك استعادت مصر قوتها الإمبراطورية بعد أخناتون، أما بابل ففضلت السقوط الحر على الصعود في مواجهة التحدي الداخلي والخارجي، وهو أمر تكرّر عدة مرات في تاريخها، سواء خلال الغزو المغولي لبغداد 1258م، أو الغزو الأمريكي لها في 2003م.
اقرأ أيضاً: شعوب البحر والعثمانيين الجدد- حسان يونس