الرئيسيةيوميات مواطن

نحن ننقرض أو في طور الإنقراض – شعيب أحمد

لا تكسر غصناً بإمكانك أن تصعد به إلى الأعلى

بينما أجمع الحطب شارداً خلسة في حراج منعزل، التقطتُ غصناً أخضر وغض، فبلغني وأنا أجاهد في احتطابه صوتٌ مبلل تهادى نحوي بلكنة بدوية: «لا تكسر غصناً بإمكانك أن تصعد به إلى الأعلى»، أدرت رأسي نصف دورة، هناك يتربص بي شيخ كبير مُكتنز بين أشجار الكينا، انعكس انكسار حالته أمامي في مقلتيه الحزينتين، كما كانت يداه وشفاهه ترتعشان بالذل والبرد، ابتسم لي وهو يقطر طيناً، فتراخت يداي لكلماته خجلاً عن ذاك الغصن، فكلماته هي قاعدة اللصوص المحتطبين، لهذا حررت ذاك الغصن من مطرقتي متأسفاً لفعلتي.

سناك سوري – شعيب أحمد

دحرجتُ عيناي حولي في المكان وقد نَهبتْ الحرش مطارق ومعاول وبلطات لكل أصناف المنسحقين، صِبية صغار، نساء حوامل، شبان بسراويل ممزقة، كهول وعجزة، دارت عيناي في المكان حتى عادت إلى ذاك الشبح وقد تأبط تحت ذراعه حزمة من الحطب ليأخذها لأولاده. قال مفارقاً :«خذ حصتك من هذه الشجرة لكن لا تدمرها»، ثم ابتسم لي تعباً فأرفق مغادراً يبحث عن باقي حصته من أعواد يابسة.

بلغتْ كلماته في نفسي مبلغها، فكرتُ أنا الآخر كم كنت ظالماً لنفسي بسرقة عود أخضر مشبع بالحياة بإمكانه أن يصعد بي إلى الأعلى، وأن يكون وقوداً لأولادنا من بعدنا، أعجزتُ أن أكون مثل ذاك العجوز أو حتى مثل ذاك العود؟.

يبدو أن ذاك العجوز تعمد تأجيج رغبتي حتى درتُ في الحرش، كل القرية كانت تحتطب، جميعهم مثلي ومثل ذاك العجوز لصوص يشغلهم الخوف، حتى الأمطار تتسابق في جلدهم والبصق عليهم وإذلالهم، طفل صغير في العاشرة يرتجف من البرد حنى ظهره ليصعد عليه أخاه الآخر حتى يتمكن من بلوغ جذع يابس، أطفال آخرون يقتتلون فيما بينهم على السبق في العثور على غصن، سيدة حبلى مع أطفالها تلف ثوبها الريفي الطويل المطرز بالوحل، رجل كبير يجاهد بحيل فاتر غصن عالق، شبان في العقد الثاني والثالث يحملون بلطاتهم يقمعون بها أعقاب أشجار قديمة ويابسة.

نعم، إن المرء في بلادنا يسمع هنا أصواتاً ثرثارة تعوي بقسوة الحياة كل حين، هذه الحياة القاسية التي لا تنتهي. اليوم ومع حبات المطر التي تبصقها الريح نحوي بقوة ارتفع في داخلي لكل هؤلاء المهانين هتاف مزعج ومباغت:
أيها اللصوص
أيها المنقرضون
يا عورة الإنتاج
يا أبطال الاستهلاك وأنماط البطالة
يا أشباه البشر والحجر وخطايا الإنسان
يا إخوة الطين وبصاق العالم
يا رعشة الذل والعدم
ويا ضجيج المارة
أيها الأحرار في عبوديتكم
أما آن لكم أن تنقرضوا؟

مجدداً أتأملهم جميعاً من عينان مغلقتان باتساع، مثلما يتأمل المرء لوحة من لون واحد، هو لون الطين، وأمام هذا المشهد مضت في ذهني أفكار مشؤومة، لا أعلم لما تملكني شعور أننا حرفيّاً نعيش في غابة، ففي الأيام الغابرة، كان الرجال يخرجون من كهوفهم عراة يحملون عصياً مسننة ليعودوا بالطرائد لأطفالهم وزوجاتهم، وما أشبه اليوم بالبارحة، ما أشبهنا بأجدادنا الغابرين، سوى أنهم اكتشفوا لنا النار ونحن بدورنا أحرقنا أحفادهم بها.

اقرأ أيضاً: عنطزة صحفية – شعيب أحمد

إنه عصر ما قبل الصناعة

كل شيء معطل، بدائي ومتخلف، حتى ساعات الحائط في منازلنا مصلوبة على جدراننا صامتة، العالم يدور ونحن ثابتون، بل نرجع القهقرة، إننا في حالة وقف تام.

جميع السكان في هذا الحي الريفي الفقير على الأقل يطهون طعامهم، كما فعل السالفون من أبناء العصر الطباشيري المبكر، على الأعواد اليابسة أو روث الأبقار الجاف، كما تلد نساؤنا في الشوارع لدى داية القرية الودودة التي لا تطلب منك أجراً لقاء منحك حياة جديدة.

نعالج أولادنا المرضى بطرق آبائنا أبناء الكهوف بالكي بالنار أو بالأعشاب، ولا ضير أمام الجميع إن توفي أحد جراء ذلك، كما توفيت “وردة” الصغيرة قبل عام لأن والدها كان يسقيها منقوع “القريّص” وهي نبتة سامة قيل له أنها تساعد على تخفيف آلام الرمل والحصى، لأنه لا قدرة له على تكاليف علاجها. وفوق كل ذلك لا قانون يحمينا هنا، نحن نحل مشاكلنا بأنفسنا، لا نتكل على القوانين المكتوبة فهي لا تعيد لنا حقوقنا المنهوبة، بل تحتاج من يحميها، فقد كثر اللصوص والمتصعلكون، كثر القوادون والمجرمون من حولنا، لهذا ترانا نلوذ بالعشيرة وبالعصبية لنحمي أولادنا. ولأجل كل ذلك نلجأ إلى العرافين والمشعوذين والدجالين للحصول على أمل جديد في غدٍ مختلف.

أمام ذلك رجعتُ إلى منزلي، حاملاً تلك الأفكار المشؤومة مرة أخرى، وفي الطريق سمعت خشخشة أعواد تزحف على الإسفلت، عود أخضر كبير يُجر أمامي، حين اقتربت أكثر لاحت لي هامة ذاك العجوز، ذاك الشبح المُكتنز قد سرق العود الطري الغض مني.

يبدو أننا ننقرض أو في طور الإنقراض، إننا فعلاً في مرحلة سابقة لنشوء الأمم ولنشوء الإنسان المتمدن، الناس هنا يجوعون حرفياً، يموتون حرفياً وباتوا ينهبون كل شيء، إنها حرب الكل ضد الكل أي شيء ليكسبوا يوماً إضافياً في الحياة، لهذا تركت ذاك العجوز وبدلّتُ طريقي بآخر كي لا تتصادم عيناي بعيناه، كي لا أخجله، يكفينا انكساراً، ألا يكفي أن الكل يكسرنا كل يوم. لكن ما أعرفه الآن وبحق أننا بحاجة إلى غصن لين نصعد به إلى الأعلى لنخرج به من كل هذا الطين.

اقرأ أيضاً: فرسان سوريا الجدد – شعيب أحمد

زر الذهاب إلى الأعلى