الرئيسيةرأي وتحليلشباب ومجتمع

مقاومة الفساد -ناجي سعيد

أدوات المواجهة اللاعنفية غير المحدودة..

نشأت فكرة الفنّ من أيام “إنسان الكهف” من خلال التصاوير التي اُكتشفت على جدران الكهوف. وكانت حينها نابعة من عجز الإنسان القديم على التعبير عن آرائه. وبما أن التعبير مَلَكَة موجودة داخل الإنسان، فلا بُدّ لها بالظهور بطريقة أو بأخرى.

وكان السائد حينذاك، مُعتقد خُرافي، يقول بأن الحيوان المُفترس الذي يُقرّر الإنسان قتله، يرسمه الصيّاد مقتولاً بالأسهم، ليلقى المصير نفسه. لذا كَثُرت تصاوير جدرانيّة لحيوانات مُفترسة مُصابة بأسهم.

سناك سوري – ناجي سعيد

ثُمّ تتالت الأمور، فبعد الثورة الصناعيّة، والتكنولوجيا وصولاً إلى العالم الرقمي الافتراضي، أصبح الفنّ أداة مُتنوّعة الوسائل، والمتطوّرة منها، تهدف وبشكلٍ واعٍ إلى التعبير عن رغبات وأهداف يُراد تحقيقها. فمن بعد المدرسة الكلاسّيكيّة التي تأرجحت ولادتها بين ذاكرة فنّان يعتمد على ذاكرته في تأمّل المواضيع قبل أن ينزوي في محترفه ليرسم ما يتذكّر، وفنّانون آخرون جلسوا لساعات أمام المنظر الطبيعي أو الشخصيّة، والشروع في نقل تفاصيلها بشكلٍ واقعي لينتجوا مدرسة واقعيّة كلاسّيكيّة.

وبغضّ النظر عن رحلة الذاكرة بين الخيال والواقع، تكرّس الفنّ كوسيلة تعبير عن آراء مُعارضة أو مؤيّدة لمفاهيم سائدة. لا بل أكثر علميًّا وفلسفيًّا، فقد أثبت “المجنون” الهولّندي فانسنت فان غوغ في أعماله الفريدة التي ختمت الانطباعيّة بنظريّة علمية تُفضي إلى أنّ النظرة الأولى إلى المشهد تحمل ألوانًا لا يراها الإنسان العادي. وتميّز بانفعاليّة سريعة، حيث كان يُنهي لوحة في كُلّ جلسة. وبضربات ريشته الانفعالية أسّس لمدرسة تكعيبيّة كان رائدها الفرنسي بابلو بيكاسو، الذي اشتهر بلوحته التاريخيّة “غيرنيكا”. فكانت هذه اللوحة: “حين قامت طائرة حربية ألمانية وإيطالية مساندةً لقوات القوميين الإسبان بقصف المدينة في 26 أبريل 1937 بغرض الترويع خلال الحرب الأهلية الإسبانية وكانت حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية (1931-1939) قد كلفت بابلو بيكاسو بإبداع لوحة جدارية لتعرض في الجناح الإسباني في المعرض الدولي للتقنيات والفنون في الحياة المعاصرة (Exposition International des Arts et Techniques dans la Vie Modern) الذي أقيم في باريس عام 1937.

وكان بيكاسو قد انتهى من اللوحة في أواسط يونيو 1937”. وهنا نتأكّد من تكريس الفنّ للمقاومة اللاعنفيّة، فمن لا يعرف بأن ناجي العلي الفنّان الفلسطيني الذي اغتاله الموساد في بريطانيا عام 1989، خوفًا من أثر ريشته على الاحتلال الصهيوني! وأكثر ما يُلفت عند ناجي العلي، الرسم الذي يُجسّد مواطن فلسطيني يكتب على الجدار “فلسطين بلادنا”، ثُمّ كُبّلت يداه، فصرخ فلسطين بلادنا، فكُمّم فمهُ، فقال في قلبه فلسطين بلادنا، فقُتل، ليأتي أطفاله ويملؤون الجدار كتابةً: فلسطين بلادنا.

رسم ناجي العلي

وكلّ ماسبق، لأوجّه كامل التحية للصديق “ناصر عجمي”، الفنّان بالفطرة، فهو لم يدرس الفنون في الجامعة، بل هي هوايته، وما لم يكن هواية، هو نضاله المستمرّ ضدّ الظلم. ففي معرض أُقيم في بيروت، جسّد ناصر مشاهد من بيروت بعد انفجار 4 آب الذي كان بحجم حرب أهليّة، ولكنّها اختلفت بأنّ لم يكن طرفًا من الأهالي ضدّ الآخر، بل كانت السلطة الفاسدة بإهمالها المُنظّم ضد الشعب الفقير. ما يُميّز أعمال ناصر، بالواقعيّة التي استمدّت قوّتها من استخدامه لبقايا أثاث من بيته الذي تدمّر جرّاء الانفجار، ورسم عليه. فاستخدم “بارافان” من منزله ورسم عليه مشهد الإهراءات المُدمّرة، وفي المسطّح الأوّل للّمشهد، رسم إنسانًا يتأمّل المشهد بحسرة، قد تكتشف أنّها ليس حسرة على المستقبل أمامه، فالجهة الخلفيّة لِلّوحة، يرسم سراب هو الماضي الأسود الذي ننشد تغييره.

ناصر عجمي مناضل لاعنفي بالفنّ، فعلى ما أعتقد خاض تجربة الحرب، فهو من جيلها. وأظنّ أن تجربته كانت مع قوى تَقدّمية تناضل للتغيير، وقد اختار المقاومة اللاعنفية بالفن كما ناجي العلي، ودون قرار مُسبق منه ذلك. فمن يتعرّض لكمّ الأفواه، لا بدّ له من اختيار وسائل سلمية تُكرّس مستوى واعٍ لمُثقّف لا يلائمه السكوت.. عن الإسكات. وسأنهي باللوحة المعنونة “صمت الانفجار”، حيث يُذيّل تصوير المبنى المُدمّر، بشتلات خضراء تُفصح عن أمل للتغيير مزروع بداخلنا.

اقرأ أيضاً المدراء الذين لم يحصلوا على تربية سليمة قد يمارسون العنف – ناجي سعيد

لوحة صمت الانفجار – ناصر عجمي

زر الذهاب إلى الأعلى