في صغري كل من تذكّر جدّي دمعت عيناه. وقف وقال لي بحرقة وشوق راعف للإرث العتيد (الله يرحم شوارب جدك يا “عمو”). وحين كبرت ونمى الشعر على وجهي وأصبحت مدرّساً بقي الحنين وذاك الشوق كما هو ولم يتبدّل. لكن ما تغير هو كلمة واحدة فقط (الله يرحم شوارب جدك يا “أستاذ”). فالذي تغير هو مرحلتي العمرية فقط. بينما بقي المديح والولاء لشوارب جدي ثابتاً بمرور العصور.
سناك سوري – شاهر جوهر
المثير في الموضوع. أن لا أحد يذكر أبي كذكرهم لجدّي. رغم أن أبي كان ضمن صفوف الفدائيين بشاربين جميلين ومعتدلين في فترة سالفة من سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم في الجولان. حين كانت العروبة على طهارتها وبرائتها الأولى. ربما لهذا السبب كرهت العروبة. وكنت أجيد العناية بالحفاظ على هذا الإرث الذي عني به جدّي. لا أقصد المقاومة والممانعة. بل العناية بشارباي.
فأنا من قرية تعشق وتقدّس الشوارب. فكيف لا ترث عائلتي هذه القداسة إذاً. فالكل هنا يعرف جيداً كيف أن شاربا جدّي لا تستطيع أقوى الزوابع أن تحركهما (في الوصف بعض المجاز) مهما كانت المرحلة التي يمران بها من مراحل تطور الشوارب. فهما في صورة له على الحائط مدعاة فخر للعائلة. لهذا كبرتُ. وكبرت معي تلك الشوارب. أعتقد أنهما الشيء الوحيد الذي ورثه أبي عنه مع بعض ديونه.
فهذا النمط السردي التاريخي اعتادت كل العوائل هنا أن تحتذيه. بأن تضع صوراً من القطع الكبيرة والمتوسطة لرب العائلة وهو مفتول الشاربين في صدر البيت. صور تعود لحقب أكل عليها الدهر.
اقرأ أيضاً: في إدلب الحرب حرمتهن حتى من “الزي الشعبي”!
لكن مع نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة. و إرتفاع مستويات التعليم في القرية. وغزو الإنترنت والمسلسلات المدبلجة. كل ذلك خلق ثورة جديدة يحملها جيل جديد يؤمن بالتغيير في طريقة ونمط تفكيره وحياته وحتى مظهره. في هذا المنعطف وجدت صعوبة بالغة في العيش أسير نمط جدّي التقليدي. خصوصاً حين بلغتُ الخامسة والعشرين و قررت الزواج.
فلهذا الجيل الجديد نمط حياة مختلف تماماً. و يبدو أنني بهذين الشاربين لا أستطيع التأقلم معه. فأذكر أني تعرفت على فتاة لم تكن من عشيرتي. مثقفة ومن الطبقة المتوسطة. صحيح أنها سمينة. و أني طوال معرفتي لها لم أميز بين خصرها وعنقها. لكنها حين تراني تتمايل في مشيتها برشاقة. وهذا هو المهم. فمنها تعلمت أشياء وعادات لطالما كانت محظورة لدي. كأن ألتزم في مواعيدي. و أن أزرع الأزهار والورود. والأهم من كل ذلك أني بسببها حلقت شارباي. نعم فعلتها حين وشت لي إحداهن أن تلك السمينة تقول أن (شكل شارباي بدائي ومتخلف).
اقرأ أيضاً: تجربة “دين قراطية” في سوريا
لا أنسى ذاك اليوم أبداً. حين أغمضت عيناي وشددت يدي على آلة الحلاقة وأكملت جريمتي. إنه تمرد واضح. فالصدمة الأولى لجمهورك قد تكون قاسية أحياناً. خصوصا حين تبدأ بنمط جديد لحياتك. تتمرد فيه على إرث عمره خمسون عاماً. أو المرحلة الأخيرة من مراحل تطور الشوارب.
أمي .. أخي الكبير .. عمي .. مديري في المدرسة .. الكل وقف فاغر الفم. ثم انبروا جميعاً في اهانتي بعناية. استوقفوني جميعاً و بنظرة حزن قالوا لي كلاماً يفضل عدم سماعه لمن هم (+ 50 ).
لكن عندما قامت الحرب في بلادنا. و تملّشت قرانا بفصائل تنادي بفكر جديد. جميعهم أصبح يكرر أن حلق الشارب سنّة. وأن مراحل تطور الشوارب هي فعلاً من الصفر إلى الصفر. وأصبح جدّي من منسياتهم. فرحم الله شاربا جدي.