محنة العقل العربي – أيهم محمود
لماذا لم يظهر لدينا في سوريا نسب وفيات أكبر بالكورونا مقارنة مع الدول الأخرى؟
سناك سوري-أيهم محمود
أذكر إلى الآن مقدار الخجل الذي استقر كحجرٍ ثقيلٍ، فوق صدري في السنة الخامسة من عملي الهندسي، كنت قد أتقنت أحد الأعمال الهندسية نتيجةً لمشاركتي في تنفيذه بضع مرات، أعمل هذه المرة في شركةٍ أخرى وواجبي فقط هو الإشراف على تنفيذه وهو أمرٌ سهلٌ وبسيط مقارنةً بظروف التنفيذ، طلب مني أحد المدراء الطلب من الخبير الأجنبي مرافقتي إلى موقع العمل لكي يُقيّم صحة إجراءات تركيب القالب والاستعداد لبداية التنفيذ، أردت رفض هذا الأمر لكن فرق العمر الهندسي بيني وبين مديري منعني من إعلانه، الخبير مهندس من دولة شرقية لكن لا علاقة لاختصاصه الهندسي بهذا العمل، ذهب الخبير ووقف أمام القالب وقال لي باللغة الانكليزية: أنا لا أعرف شيئاً في هذا المجال لماذا طلب مني الحضور إلى هنا؟.
لم يكن خجلي شخصياً بل كان حضارياً ووطنياً بامتياز، خجلت كإنسان قام أحد أبناء بلده بإظهار التبعية التامة للعقل الغريب والقول له أننا نحن كسوريين عاجزين كلياً أمامه، عَلِم مديري بخبرتي العلمية والعملية السابقة لكنه بقي مشككاً بها أمام حضور أسطورة العقل الأجنبي حتى لو لم يكن مختصاً في هذا المجال، لم تكن هذه الظاهرة فرديةً استثنائية بل هي ثقافةٌ عامة كارثية وخاصةً حين التعامل المباشر مع ثقافة البلدان الغربية الرأسمالية، هكذا يأكلون، وهذا ما يتناولونه في طعام الفطور، هكذا يلبسون، وهكذا يشربون..، الإنسان الأكثر حضاريةً لدينا هو من يقلدهم بشكل أعمى في كل ما يفعلون، بل عليه أن يضع في حديثه بعض المفردات الفرنسية أو الانكليزية لإثبات ذلك!، هذه صورةٌ كاملة لانسحاق الهوية الذاتية التام أمام حضور الإنسان الغربي يقابلها التمرد الأسوأ منه المتمثل بالرفض الغريزي البدائي، لكل ما هو غربي ومحاولة العودة إلى الماضي في اللباس والتصرفات والقوانين وأساليب الحياة والتفكير، بين هذين القطبين المتطرفين ضاعت بلادنا في فراغٍ ليس له أي هويةٍ أو معنى.
لم ننتبه في غفلتنا الحضارية هذه إلى دول النمور الآسيوية، أو دولة الصين أو إلى اليابان، كيف استطاع هؤلاء النجاة من سيطرة فكرة العجز أمام قوى الاحتلال ثم النجاح في تطوير عقول علمية مهمة قادرة على تجاوز التخلف والتبعية وتأسيس عالم المستقبل بصناعاته وتطوره العلمي، الاستسلام للعجز يعني ليلاً دائماً لا أمل لأي ضوءٍ فيه كما هو الاستسلام التام للماضي والخوف من التحديث والتجديد وبناء صرحٍ ثقافيٍ حديث يواكب ضرورات العصر الذي نعيش فيه.
ما حرض ذاكرتي القديمة هذه هو صراعٌ قاسي خضته على صفحتي في الفيسبوك، طرحت سؤالاً إشكالياً فكانت الردود عليه لا تتوافق مع مضمونه بل هي أقرب للتكفير، بالغت في الضغط على المحاورين للإجابة لكن دون جدوى.
اقرأ أيضا: هل التراجع الأمريكي حقاً تراجع؟ – أيهم محمود
السؤال بسيط:
“لم يتاح لنا في سوريا بسبب ظروفنا الإقتصادية القاسية تطبيق الإغلاق والتباعد الاجتماعي للوقاية من فايروس كورونا، مازالت نسبة الملقحين لدينا منخفضة مقارنةً مع دولٍ أخرى، ومع ذلك لا تشير بياناتنا الرسمية إلى زيادات مهمة في نسبة الوفيات بعد مقارنتها مع نسبة الوفيات العالمية، علماً أن الكتلة الأضخم للإصابات لم يتم التبليغ عنها ويتم علاجها في المنازل، نسبةٌ منها أيضاً لم تشعر حتى بإصابتها بالمرض”.
في اختبارات الأدوية الجديدة يتم إعطاء الدواء لمجموعة، ويتم أيضاً إعطاء دواء وهمي “غُفل” لمجموعة شاهدة للمقارنة بينهما، فإن كان هناك فرق واضح وجلي بين نتائج الشفاء أو التحسن بين المجموعتين نستطيع القول أن لهذا الدواء آثار علاجية فعلية، من هذه الفكرة انطلقت وتساءلت على صفحتي، نحن في سوريا -وفي بلدان عالمية أخرى أيضاً- نشكل عملياً المجموعة الشاهدة، فإن لم يظهر فيها نسب وفيات أكبر يجب علينا البحث عن أسباب هذا الأمر والشك بالفعالية المعلن عنها للقاحات.
تناوبت الردود بين السخرية والتكفير فلا يجوز مطلقاً لأي مارقٍ في دين الكورونا الجديد، طرح الأسئلة المشككة في فعالية اللقاح تحديداً، تاريخ العلم كله قائمٌ على الشك وليس على الاستسلام لليقين، لم يكن يقين علماء الكنيسة صحيحاً حين واجهوا تشكيك غاليلو به، اليوم نعرف أنه كان على حق رغم اضطراره للتراجع عن أقواله ظاهرياً نتيجة الخوف على حياته، لغة العلم كانت دائماً لغة قبول الحوار المتبادل، لا يتفق العلم أبداً مع لغة القسر والإكراه ولغة التهديد والتكفير.
السؤال فخ، نعم اعترف بذلك، لكنه في مضمونه وجوهره صحيح بل يستحق البحث الرصين الطويل قبل الإجابة المتسرعة عليه، قد تكون نتائج لقاح كورونا صحيحة لكن هناك ظروف وعوامل أخرى في منطقتنا، درجات الحرارة، التنوع الجيني، تاريخ لقاحات سابق، نمط غذائي معين، تاريخ إصابات سابقة بفيروسات مشابهة مثل سارس١ أو غيره، هناك عوامل كثيرة قد يكون أحدها فقط عدم فعالية اللقاح كما تم الترويج عالمياً له، لم يقبلوا الشك باللقاح، كما لم يقبلوا أيضاً البحث العلمي عن مخارج أخرى لهذه المسألة منها عدم صحة بياناتنا الوطنية وضرورة التدقيق في صحتها وتطوير آليات التحقق منها، علماً أني أميل بشكل شخصي إلى صحتها لأنها تتوافق مع بيانات الكثير من الدول ذات الوضع المشابه لحالتنا.
وقف العقل العلمي للمختصين في مأزق، إما أن يقولوا أن بياناتنا غير صحيحة وبالتالي يتوجب عليهم الاصطدام بالمؤسسات التي يتبعون لها في عملهم، أو القول أن فعالية اللقاح ليس كما تم الإعلان عنها، لم يتطرقوا في ردودهم إلى ضرورة البحث في مسارات محتملة أخرى لأنها تتطلب البحث الذاتي المستقل عن هوية البحث العالمي الراهن وهنا النقطة الأساسية موضوع المقالة كلها، الهزيمة الحضارية والاستسلام التام أمام سطوة الثقافة الغربية.
اقرأ أيضاً: الخلل المنطقي أعمق وأخطر من الخلل السياسي – أيهم محمود
لا تتطلب الأبحاث الإحصائية الكثير من الموارد المالية، ولا تتطلب تجهيزات عالية التقنية باهظة الثمن غير متوفرة لدينا، لقد غيرت الإنترنت حياتنا إذ يمكن -حين توفر الإرادة- إنشاء مجموعة طبية اختصاصية على أي من برامج التواصل الاجتماعي وتبادل بيانات العيادات الخاصة بل وحتى بيانات الناشطين الموثقة بالأسماء والعناوين لإنشاء قاعدة بيانات مهمة قد تقود إلى اتجاهات بحثية يمكن الإعلان عنها عالمياً، ليس علينا أن نحول الأبحاث العلمية العالمية ابنة قاعدة الشك الذهبية إلى دين ونصوص نرددها ثم نُكفّر من يُشكك بها.
هذه نقطةٌ واحدة، أما النقطة الأخرى التي أرغب بطرحها:
لم تعد الثقافة الغربية تلك التي عرفناها من قبل، حين سقط المنافس الشيوعي تراخت الثقافة الرأسمالية من الداخل، لم يعد عليها أن تنافس أحداً لتُظهر الفرق الجلي بينها وبينه، لذلك نجد تآكلاً مستمراً لها ونزوعاً واضحاً نحو عودة القسر والإكراه إلى بنيتها الثقافية، باتت مصالح الشركات في هذه الثقافة تحكم كل شيءٍ فيها بدءاً من السياسة وانتهاءاً بالكثير من التوصيات الغذائية والصحية والعلمية التي تخدم أرباح هذه الشركات، ليس علينا الاستمرار في عيش المثال الذي بدأت فيه مقالتي هذه بل علينا انجاز التحرر التام منه والتحرر أيضاً من رؤية عشاق الماضي المجيد، فلنتطلع إلى آليات تحرر عقل دول الشرق الأقصى، كيف استطاعوا إنشاء مراكز أبحاثهم المستقلة عن التبعية الغربية، الاحتكاك بالثقافة الغربية للاستفادة منها شيء، والاستسلام الأعمى لها كدين شيء آخر، هي تجربة إنسانية تستحق الاحترام الشديد لكن لا يجب أن يمنعنا الاحترام لها من إنشاء تجاربنا الذاتية الخاصة سواءٌ توافقت في بعض الأجزاء منها أو اختلفت معها.
اقرأ أيضاً: امتلاك السلطة ليس كافياً لإحداث التغيير – أيهم محمود