الرئيسيةمعلومات ومنوعات

قصيدة مصياف للكاتب والشاعر السوري ممدوح عدوان

يا ليتني صفصاف أو زهر درَّاقه لأبلَّ حلقي الجاف في نبع وراقه

كتب الراحل الشاعر والكاتب السوري “ممدوح عدوان” قصيدة خالدة عن مدينة “مصياف” السورية التي ينحدر منها تحدث فيها عن الذاكرة وعن الحاضر.

سناك سوري – مصياف

قصيدة مصياف للراحل ممدوح عدوان

الأهل في مصياف والروح توَّاقه
يا ليتني صفصاف أو زهر درَّاقه
لأبلَّ حلقي الجاف في نبع وراقه
تتجمَّع الأطياف في الرِّيح كالباقه
والريح في التطواف للدمع سبَّاقه

ريح بذاكرتي
وكنت الطفل يركض في الظلام
ملاحقاً بالحشرجاتِ
يسوقني خوفي
عينان تلتمعان
عينا مارد
وبصيص جنيٍّ بعينَيْ هرَّةٍ
أأقول: باسم الله أفضح نيَّتي؟
أم أُسلم الساقين للريحِ
ريحٌ بذاكرتي
ومصياف التي جاءت تصيَِّف في الجبال
تغرَّبت عن عمرها
وتشرَّدت في الوعر مثلي
برَّدتها الريح في الصيف
ريحٌ.. وقاعٌ صفصفٌ
أشباح خيل في الظلام
مكامن بين الصخور
وقلعة تبدو بعتم الفقر كالطيفِ
الميتون استكثروا التكفين والدفن
ارتموا بين الحراج
تكفَّنوا بالزعتر البرِّيِّ والريحانْ
صاروا ربيع الزيزفون
ولوَّنوا ألق الندى
وشقائق النعمان
مصياف تسخو بالحنين
فتنشر الدفلى كنهر دمٍ
وتسقيه من النزفِ
فيفتِّح اليتيم الذي فيها زهوراً
والجراح بها عطوراً
تشرئبُّ حرائق الرغباتِ
من أعماق فاقتها وفتنتها
بحب يملأ الدنيا بخوراً
تستفيق بموتها بستان
يَسْتيقظ العشق الدفين
وراء خط الفقر
يوقظ رغبة الشبَّان
وترى الصبايا شهوة للحبّ
تسطع حمرة في جمرة الرمَّان

قصيدة مصياف التي كتبها ممدوح عدوان

بنت لها أسرار والصبّ في الطاقه
ولد غريب الدار والبنت عشَّاقه
يا قاطف الأزهار حوِّش لنا باقه
حرز الهوى يشفي من عاطل النيَّه
والريح تكنس زهرنا المشتول
فوق مقابرٍ حيَّة

ريح بذاكرتي
وكانت تستثير الدمع قسراً في طفولتنا
كبرنا الآن
ما للدمع في الذكرى يسحُّ؟
أذكريات الريح كالريحِ
أم أنَّنا اعتدنا على نوح الرياح
فهدَّأت أوجاعنا
اعتدنا على عيش الكفاف
وصار كلّ يرتضي جسداً بلا روحِ
الوحشة امتزجت بنبض دمائنا
ليريحنا دمع التماسيحِ
ريحٌ بذاكرتي
وخوف قاتم كالغاب
أم ضيف بدا بالباب
والغدر المخاتل قابع في الناب
– أهلاً
لم يسلَّم
واستراح هنيهة
وأنا أحدِّق ذاهلاً في وجهه
ويلفُّني رعبي
هذا الغريب صديقنا
يأتي ويذهب دونما سبب
وكلُّ زيارة للبيت
نخرج في الوداع جنازة
يا ضيف لم نبخل عليك
أطفالنا وشبابنا ارتاحوا لديك
وشيوخنا حنُّوا إليك
فعلام تحمل كلَّ هذا القهر والبلوى
إلينا في يديك
يا ضيفنا قد جئتنا سرَّاً
لتسكن في ربى مصياف
وأنَخْتَ رحلك بيننا كي تبدأ التَّطواف
يا ضيفنا لو زرتنا في هدأة
لوجدتنا نحن الضيوفَ الطارئين
وأنت ربُّ المنزل المضياف
خذ ما تشاء
وإن رغبت فحُلَّ في ((برك الدراويش))
الذين سفحت فيض دمائهم
وأقم إذا أحببت فوق ((المشهد)) العالي
ليبقى ظلُّك الأبدي
فوق صدورنا صخراً
وخذ دفء البيوت
فنحن نمضي خلف قافلة الرياح
وسوف يرشدنا إلى المنفى دليلُ
لم يبق من أعمارنا إلَّا القليلُ
والفقر عوَّدنا
طوال حياتنا
ما جاءنا إلَّا الأنين الغضّ والبخت الهزيلُ
يا ضيفنا
خذ ما تشاء
ودع لنا ضوءاً على الدربِ
أهلاً
ولم يسمع
وراح يفكُّ صُرَّته
وينشر أوجه الأحباب في قلبي:
هذا صديقٌ غاب في سجن
وهذا مات من قهر
وهذا تاه في المنفى
وهذا راح في الحربِ
أبكي لذكراهم
وأسأل رحمة الريح الشقيَّةَ
أن تليِّن قلبه نحوي
يلملم ما يشاء.. ولا يودِّعنا
يسير بصمته المشبوه
يمضي تاركاً لي ما تبقَّى
من توجُّع صاحبي قربي
وذهول أصحابٍ خبا من عمرهم
ألق الهوى وتآلف الصحب
داروا طويلاً حول ضوء فاتر داروا
غرباء في الأوطان ما فُتحت لهم دارُ
يا مشفقون بحقِّ طه المصطفى داروا
هذا الغريب فزاده لمع السرابْ
يا صاحبي
أين احتجبت طوال هذا القهر؟
كيف نسيتني؟
ورجعت مصحوباً بهذي الريح
تُعول كي يظلَّ برقبتي ذنبي
تهوي وما أنهيت يا بطلي الصراعا
حاربت حتى انهرتَ؟
أم كسّرتَ سيفَك واليراعا؟
زمنٌ عجول شدَّنا بضجيجه
لم يُبقِ للمقتول وقتاً كي يُوَصِّيَ
للمشيِّع أن يبوح بدمعة
لم يُبق للجلاد من سبب
ليمسح ما تعلَّق من دمٍ عن سيفه
لم يبق للمفجوع أن يلقي السلام أوِ الوداعا
تهوي فندرك أنَّ بارق عمرنا
قد لفَّه إهمالنا أو خوفنا
فخبا وضاعا
تهوي لنذكر عتمنا أو موتنا
هل أمحلت أيَّامُنا؟
لم يبق إلَّا الموت للتذكير
وهو يصول في الأرواح يحتطبُ
لا بدَّ من موتٍ كهذا
كي يلفَّ القهر ذكرى
يحتمي في حضنه ناءٍ ومغتربُ
لا بدَّ من موتٍ كهذا
كي نقول: حياتنا جفَّت
سراباً ناشفاً في الحلق
ما عادت تغرّ الخلق
ما عادت تُطاق
ونقول إنَّ الحلم أقصر من شهيق النزع
إنَّ العمر أضيق من خناق
لا بدَّ من موتٍ كهذا الموت يُبْلغنا
بأن الشمس تخسر من أشعَّتها
وأنَّ الخيل كدَّشها وبغَّلها
التجحشن في فوارسها
فما عادت تصول بهم
ولا تثبُ
لا بدَّ من موت العماليق
الذين بمجدهم يتجذَّر الحَسَبْ
ليظلَّ أقزامٌ مناكيدٌ
فيفتخروا بأجداد عماليقٍ
إذا انتسبوا
فلنعترف قدَّام هذا الموت
أنَّ الأرض جرداءٌ
وأنَّ أوابد الأجداد فينا بلقع خَرِبُ
أنَّ السلالات التي كانت فخار الأرض
تسعى لانقراضٍ
ينتهي منها الهنود الحمر
والبطريق
والأشجار
والأنهار
والحيتان
والأكراد.. والعربُ
صاروا صغاراً أو كباراً في مقاس العصر
خارج حاجة الأسواق
والأسواق ما احتاجت سوى الجثث
التي فقدت ملامحها سدى
يرسو عليها العرضُ والطَّلَبُ
جثث.. وتصلح للبرامج
والإعانات – الإهانات
التي من أجلها تُستعذب الخطبُ
جثث ستربكنا
فنجفل وهلة
لكن يجيء لنا الوداع معلَّباً مستورداً
ويسود فينا الصمت حتى في العزاء
وقد تساوي الندب والطَرَبُ
لا فرق بين النَّاس والقطعان
حين تساق للمرعى
تُسمَّن للأضاحي
لا فرق ما بين النباح أو النواحِ
لا صوت يشبه صوت إنسان
سوى هذا العويل المرّ
محمولاً على حزن الرياحِ
الريح تُعْوِلُ
تقلق الأموات
إذ هجعوا بذاكرتي
وتصخب في سكون الَّليل ندباً
تسحب الآهات من قلبي
الريح قد عرفت بأنَّ الموت مُدْرِكُنا
فخافت
وارتمت مثل الطعين
وعبأتْ ليل الأزقَّة بالصياحِ
وتعلَّقت أجراسها لترنَّ في ليل الحزانى دمعة
كي لا ينام الميِّتون مخدَّرين
بكاذب النَّدب
لا بدَّ من ريح كهذي الريح
كي نتأمَّل المرآة في رعب

قصيدة مصياف للراحل ممدوح عدوان

إنا هنا موتى
وقد لبسوا حياتهمُ قناعاً
والخوف شيَّد حولهم مدناً
فأعلى الفقر فوقهم قلاعاً
ساروا وراء جنازة أُعجوبةٍ
كم من قتيل كان في التابوت
كم من ميَّت عزَّى
وكم من قاتل أحيا لنا حفل العويل
وقد أتانا بعدما اكتملت فصول المجزره
ومضي يصلِّي طلباً للميِّتين المغفره
أنا شاعر أو شاهد متورِّط
لم يلق متكأ له في مفخره
بدمٍ تُرى؟
أم بالدموع ملأت هذي المحبره؟
وكتبت شعراً كي أُعزِّي؟
أم رسمت على الدفاتر مقبره؟
نتعمد الإسراف لنُستِّر الفاقه
الزاد خبز حاف والنفس أفَّاقه
الدمع نهر جاف ما بلَّل الياقه
والرِّيح في الأعطاف ذكرى بلا طاقة
يبكي لنا الصفصاف فنحنُّ كالناقه
تابوتنا مصياف والقبر ورَّاقه

زر الذهاب إلى الأعلى