“فوزي الغزّي” أبو الدستور السوري
يبكيكَ أحرار سورية وأنت أخُ… يبكيكَ دستور سورية وأنت أبُ
سناك سوري _ محمد العمر
يقف شاب وسيم في صدارة منزل الوجيه الدمشقي “توفيق قباني” أمام حشدٍ من القياديين وجموع السياسيين والوجهاء والمثقفين، فيما تنصت الجموع ما إن يبدأ الثلاثيني الأنيق بالكلام في ذلك اليوم من حزيران 1928.
يبدو الرجل خطيباً مفوّهاً وقادراً على استعراض الحقائق وتبيان الموقف بثقة واقتدار يغوص في كلامه إلى أن يصل بالقول «يرى الوطنيون أن الدستور السوري عملٌ داخليٌّ بحت، وقانونٌ ذو طرفٍ واحد يقرّ سيادة الأمة ويحدد السلطات الوطنية ويبيّن شكل الحكومة وما يترتب على رجالها من واجبات ويضمن للأفراد والجماعات حريتها وحقوقها»
ينقل القيادي البعثي البارز “أكرم الحوراني” تلك الجمل في مذكّراته حين كان حاضراً بين الجموع التي أصغت لذلك المحامي الأنيق الذي سيعرفه السوريون باسم “أبو الدستور السوري”، الحقوقي “فوزي الغزي”.
لم يكتسب “الغزي” لقبه التاريخي ذاك من فراغ، فابن “دمشق” المولود عام 1897 درس في أروقة المدرسة الملكية العليا في “الأستانة” عاصمة الدولة العثمانية في ذلك الحين وتخرّج منها بعد دراسة الحقوق محامياً ضليعاً بأمور القانون.
إلا أن السياسة سرعان ما سرقت “الغزي” إلى ميادينها حين خاض عام 1923 غمار أول انتخابات عامة يسمح بها الفرنسيون في “سوريا” ووقع في مواجهة مرشّحي الانتداب.
شارك “الغزّي” مع القيادي البارز “عبد الرحمن الشهبندر” في تأسيس حزب “الشعب” عام 1924 كأول حزب وطني منذ عهد الملك “فيصل بن الحسين”، ومع اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925 سارع “الغزّي” وأعضاء حزب “الشعب” إلى تأييدها والتنسيق معها، ما أوقعهم ضحية اعتقال سلطات الانتداب ونفيهم إلى “سجن أرواد”.موقع سناك سوري.
تتالت بعدها أحكام الاعتقالات والنفي التي سيتعرّض لها “الغزي” نتيجة نشاطه المناهض للانتداب ومشاركته كعضوٍ بارز في الوفود المفاوضة للفرنسيين والحكومات التي يشكلونها في “سوريا” فأبعد مرة إلى “الحسكة” ومرة إلى “لبنان” وأكثر من مرة إلى “سجن أرواد”.
عاد “الغزي” من منفاه بعد قرار عفو من الانتداب تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية، وكان العام 1928 هو العلامة الفارقة في حياته التي ستجعل من “فتى الشام” كما يسمّيه البعض أباً للدستور السوري الأول.
اقرأ أيضاً:ذكرى رحيل قائد الثورة السورية… رفض الزعامة و المناصب و دعا لثورة توحد كل السوريين
حيث أفضت الانتخابات النيابية إلى وصول الحزب الوطني إلى مقاعد البرلمان على حساب المرشحين الموالين لسلطات الانتداب، وتقرّر تشكيل جمعية تأسيسية تخرج عنها لجنة مكلّفة بكتابة الدستور السوري الأول وانتخب “إبراهيم هنانو” رئيساً للجنة الدستور فيما اختير “الغزي” مقرّراً للجنة نظراً لخبرته القانونية.موقع سناك سوري.
يروي الكاتب والباحث السوري “شمس الدين العجلاني” في سلسلة مقالات حول واضع الدستور السوري نشرها في مجلة “الأزمنة” أن “الغزي” بذل جهوداً مضنية استطاع على إثرها صياغة مواد الدستور الـ 115 خلال أقل من شهرين وأنه وضع في تلك المواد خلاصة ما اطّلع عليه من الدساتير الأوروبية المتطورة مع مراعاة خصوصية المجتمع السوري.
وبما أن واضع الدستور كان رجلاً توّاقاً للاستقلال فقد كان من الطبيعي أن سلطات الانتداب لن تقبل ما جاء به من مواد دعت إلى وحدة البلاد السورية التي انفصلت عن الدولة العثمانية في إشارة منه إلى بلاد الشام كاملة، إضافة إلى سيادة الحكومة السورية وتشكيل الجيش الوطني واستقلالية السياسة الخارجية لسوريا.
حيث شكّلت تلك النقاط أبرز ما اعترضت عليه “فرنسا” ورفض “الغزّي” وأعضاء الجمعية التأسيسية الرضوخ لمطالب الانتداب وقاد “الغزّي” رفض البرلمان بالغالبية لشطب المواد التي اعترضت عليها “فرنسا” ما دفع المندوب السامي الفرنسي حينها “بونسو” إلى تعليق عمل البرلمان إلى أجل غير مسمّى وتم تعليق إعلان الدستور السوري الأول.موقع سناك سوري.
تزوّج “الغزي” من “لطفية اليافي” وأنجب منها “خلدون” و”دلال” ويروي الصحفي “نجيب الريّس” في إحدى مقالاته بصحيفة “القبس” أنه قابل “الغزي” في سجن أرواد وكان شاهداً على دموعه كلما تذّكر زوجته وأولاده الذين حرمه سجن الانتداب من الاجتماع بهم مشيراً إلى أن “الغزّي” كان يستفيض في الحديث عن حبه لزوجته وإخلاصه لها.
إلا أن صباح 5 تموز 1929 حملَ معه مفاجأة مدوية هزت الأوساط السورية حينما شاع نبأ وفاة “الغزي” وهو في ريعان شبابه وذروة نشاطه وقد لمع نجمه بين الشباب وفي الصحف وسمّاه الناس “أبو الدستور” تكريماً لجهوده في وضع دستور للبلاد في سبيل نيل الحرية والاستقلال.
اقرأ أيضاً:أحرق بيته لأجل الثورة و مات مفلساً!
واجتاحت العاصمة “دمشق” يوم 6 تموز جموعٌ من أنحاء “سوريا” والمدن العربية لتشييع “الغزي” حاملين لافتات “وداعاً أبو الدستور” وتظهر أعداد قديمة من مجلة “المصور” المصرية مشاركة نساء “دمشق” و”بيروت” في التشييع.موقع سناك سوري.
لكن لغز موت “الغزّي” بقي غامضاً حتى الساعة، حيث تضاربت الروايات التاريخية في تفسير موته المفاجئ الذي قيل في البداية أنه بسبب سكتة قلبية، لكن تشريح جثته أثبت أنه مات مسموماً بمادة “الاستركينا” التي تناولها عبر حبّة دواء خلال زيارته لمزرعة أخيه “فريد” في قرية “الريحان” برفقة زوجته وأولاده.
يؤكد “العجلاني” أنه بعد بحثٍ طويل في القضية يميل للقول إن الانتداب الفرنسي بقيادة المندوب السامي “بونسو” هم من دبّروا قتل “الغزي” عن طريق ابن أخيه وأن أيديهم الخفية لا بد من مساهمتها في اغتيال “الغزّي” نظراً لما مثّله من قامة وطنية عرقلت مخططاتهم وناضلت بصلابة في وجه قرارات الانتداب ولم تخضع حتى النهاية.
نعاه “فارس الخوري” أحد أبرز رجال الاستقلال بقوله:
يبكيكَ أحرار سورية وأنت أخُ
يبكيكَ دستور سورية وأنت أبُ