غاندي ومفهوم الآخر والحب – ناجي سعيد

أنا وخيي على ابن عمي وأنا وابن عمي عالغريب.. لماذا لا يصبح: أنا وخيّي وابن عمّي والغريب.. ضدّ الشرّ والعنف!
سناك سوري-ناجي سعيد
لكم سمعنا بفلسفة شعبية غريبة، ولا أعلم من هو مبتكرها، والجملة التالية تختصر هذه الفلسفة: “أنا وخيّي على ابن عمّي وأنا وابن عمّي على الغريب”.
لو تأمّلنا بمعنى هذه الجملة لأدركنا معنى تضييق المساعدة على “ابن العم”، بالأحرى، دائرة الأقارب. ومن منظور فلسفي، سياسي واجتماعي، فهذا المعنى، يمهّد الطريق لتكريس العنف كنهج حياتي. فهل من المعقول أن أساعد وأتعاون مع كل من يعيش ضمن دائرتي، وأعلن العداء وأمارسه بشكل عنيف على أي آخر خارج الدائرة؟ والمسار اللاعنفي المنشود، لا يمكننا إدراكه بسهولة فائقة.
فقد سلك “بوذا” مؤسّس الديانة والفلسفة البوذيّة (القرن السادس ق.م.) طريق مختلف لاحترام وتقدير الآخر، ألا وهي طريق “قهر الذات”. وكان هذا الطريق، عبارة عن حياة الزهد والنسك، والترفّع عن الاستسلام للشهوات والرغبات. وبالابتعاد عن الحياة المادّية، يصبح الطريق مُمهّدًا للإيمان بوجود حياة أخرى، فينتظر الإنسان حياة أخرى أفضل، عند مفهوم الاستنساخ.
اقرأ أيضاً: عن تولستوي وأثر الثقافة العربية في لا عنفيته _ ناجي سعيد
وفي عصرنا هذا، عصر المادة بالطبع والابتعاد عن العالم المثالي، نجد مفردات أخرى، أقرب للواقعية. فالمهاتما غاندي، وبعد أن درس القانون في دولة احتلّت بلده، لم يستطع إغماض عينيه عن صعوبة تحرير بلده (من الاستعمار البريطاني) قبل العمل على توحيد شعب يقارب بتعداده الـ400 مليون نسمة، يتوزعون على حضارات وديانات متنوّعة، ولكنهم استطاعوا أن يتجاوزوا اختلافاتهم وخلافاتهم.
الجهد الذي بذله غاندي في ابتكار طرق ووسائل فاعلة تخدم القضيّة كان كبيرا، والطريقة كانت تًبتكر من واقع الأحداث الشعبيّة، فمن ينسى مسيرة الملح.. لكنّ الأساس في هذه النشاطات الفاعلة الموجّهة هو لُبنة اعتمدها غاندي لاستثمار النضال الشعبي اللاعنفي في مساره الطويل: قبول الاختلاف ومحبّة الآخر. والعاملان المساعدان، اللذان بُنيت عليها المقاومة اللاعنفية، وتحديدًا ثورة غاندي، هما: التنوّع المكوّن للشعب الهندي، وثقافة قبول الآخر. ونقطة القوّة هذه هي ذاتها نقطة الضعف، وقد استغلّها المتآمرون، حيث تلاعبوا بعقل أحد الأشخاص مُستغلّين اختلاف هويّته الضيّقة وكلّفوه بإطلاق الرصاص على المهاتما غاندي.
لم يكن مقتل غاندي نهاية النضال اللاعنفي. فما بُني على قبول الاختلاف واحترام الآخر، لا يمكن أن ينتهي ببساطة. فهذان المفهومان نابعان من مصدر واحد عن الإنسان، ألا وهو الضمير. والضمير هو ملكة تولد داخل كلّ إنسان بالطبع، لكنّ الظروف التربوية، والبيئة التي ينشأ بها تساعد على ثبات هذا الضمير ونموّه مع قيمٍ إنسانية مرافقة له.
اقرأ أيضاً: الإشاعات والتواصل اللاعنفي _ ناجي سعيد
القضيّة الأهمّ، أن الضمير الإنساني، ينشأ بداخل الفرد، لكنّ البيئة التربوية/ المجتمعيّة/ السياسية/ الإنسانيّة/ اللاعنفيّة (بالطبع) تسهم في خلق ضمير جماعي، يرسم مسار النضال اللاعنفي، ليحقّق إنجازات كبيرة. والضمير الجماعي مساحة نظيفة من اللاعنف، لا مجال فيها لضِعاف “الضمائر”، الذين يرتكبون عُنفًا عند تلقّيهم أول صفعة، فلا يحتملون الألم إلا من خلال “الردّ بعنف”. مع أن جوهر اللاعنف أتى من مبدأ “أهمسا”، أي اجتناب الأذى على الذات وعلى الآخر.
ولو تعرّض الإنسان اللاعنفي لأذى، فلا بُد أن تكون من شيمه تحمّل الألم. وإلاّ كيف يحافظ على لاعنفيّته، ليكسر المثل الشعبي المذكور أعلاه، ويحوّله إلى: أنا وخيّي وابن عمّي والغريب.. ضدّ الشرّ والعنف. وأقول عكس ما يقول أبا ذرّ الغفّاري: “عجبتُ ممّن لا يجد الحُبّ في بيته ولا يخرج على الناس شاهرًا قلبه”.
اقرأ أيضاً: التربية اللاعنفية – ناجي سعيد