عفراء ميهوب … ابنة الريف المعززة تخوض مهنة الشقاء في عصر الرصاص
الموت قاعداً خير من الموت بقذيفة…
سناك سوري-عمرو مجدح
«تلاقى التقاعد مع الحرب في أواخر عامها الثالث، كتب زميل يوما يقول عن كلمة “متقاعد” أن أصلها: “مت قاعدا” وأضحكتني الفكرة في حينها، أثناء الحرب كنت أتحاشى النظر إلى الكتب شعرت بأن كتب العالم وآدابه لا تستطيع الوقوف في وجه طلقة نارية قلت: الموت قاعدا خير من الموت بقذيفة!».
هكذا بدأت “عفراء ميهوب” كلامها لـ”سناك سوري” وهي التي جاءت صبية من قريتها الساحلية إلى العاصمة دمشق قبل أكثر من ثلاثين عاما لتنضم لأول دفعة بكلية الإعلام في جامعة دمشق وتصبح واحدة من الأسماء العريقة التي عرفتها الصحافة السورية وأثرتها بمقالاتها الإجتماعية والنقدية وحواراتها الأدبية.
تروي”ميهوب” لـ سناك سوري عن البدايات قائلة: «كنت ابنة الريف المعززة المكرمة لتفوقها وتربيتها في بيت عريق كريم لابوين مثقفين أمي رحمها الله حصلت على الشهادة الابتدائية وقرأت الكتب العربية الكلاسيكية وكانت تردد أشعار إيليا أبي ماضي – وكان والدي في الحزب السوري القومي سجن لمدة أربع سنوات – وقد فاض بيتنا بالكتب القديمة والحديثة والمجلات والصحف اللبنانية والمصرية – لهذا عنونت كتابي المتواضع اليتيم (حبر وبحر) وكانت كلمة بحر تستخدم للشيء الوفير الكثير – وهكذا كان أبي ندرة بين الآباء شكلاً وجوهراً بثقافته وكياسته وتفكيره وكما تقول العبارة ” كل فتاة بأبيها معجبه”».
درست في مدينة جبلة الساحلية الساحرة ولم تكن تختلف عن قريتها كثيراً كما تقول، مضيفة أن «البحر كان علامة فارقة لتجليات معرفة أخرى غير الكروم والمروج والقمر وخيرات الزرع الوفير».
«كان النظر من منزلنا في القرية يطال فيه أفق البحر والحرية التي تربيت عليها في بيت أبي، يجعلني أتقبل العاصمة دمشق ولم أشهد فيها مايخيف شابة منطلقة تحب الحياة والدراسة، أربع سنوات في الجامعة مضت وكأنها عادية وكنت على استعداد لمتابعة التعلم الذي راقني في المجال الصحافي ووجدت نفسي بين عالم الخبر والمحابر»، تقول “ميهوب”.
وأخيراً تحقق الأمر ودخلت “ميهوب” عالم الصحافة، تقول: «قابلت رئيس تحرير جريدة “تشرين” حينها المفكر السوري “جلال فاروق الشريف” ويبدو أن منظر الرفاه لابنة العشرين خريجة الجامعه يثير القلق والخوف من المضي قدما في عالم الصحافة الصعب قال لي إن الصحافة مهنة شاقة تستدعي العمل المتواصل ليلاً نهاراً وقد يتم استدعاء الصحافي في أي وقت نحتاجه وقد يكلف بمهمة إلى الجبهة وغير ذلك مما لم أعد أسمع».
-كل المهن والأعمال تحتاج إلى الإلتزام وقوانينها
-رئيس التحرير: أين تجدين نفسك بين أقسام الصحافة ؟
-الصحفي يجب أن يعرف شيء عن كل شيء وكل شيء عن شيء
-رئيس التحرير: العملي يختلف عن النظري؟
-لكل شيء بداية وآمل العمل في القسم الثقافي
اقرأ أيضاً: “جلال فاروق الشريف” مؤسس “البعث” الذي عاد “نصيراً”
رئيس القسم الثقافي كان حينها “عادل أبو شنب” الأديب المعروف وكاتب الدراما، الذي وبحسب حديث “ميهوب” «أبدى ترحيباً مختلفاً وحاول بمهارته وأسئلته أن يكشف بعض معارفي المتواضعة بالحالة الثقافية السورية والعربية والأجنبية وفي اليوم التالي كان الحوار الأول لي مع النحات السوري المبدع “سعيد مخلوف” ويافرحي بصدور المقال دون أن يتم تغيير كلمة فيه وقد عُرف عن رئيس القسم أنه لايهادن أحداً في الشأن الصحفي».
تضيف: «كان التنضيد بأحرف يدويه وكنت أتابع تصحيح مقالاتي في الطابق السفلي إلى جانب عمال المطابع الرائعين وقد حذرني عمال المطابع من التواجد في هذا المكان بكثرة بسبب مادة الرصاص، لكن ما همني سوى القراءة والكتابة ومتابعة الصحيفة – كنا بحسب المناوبات الليلة يحتم علينا أن نأخذ موافقة الإدارة السياسية لطبع العدد وصدوره لم تطل هذه الفترة ليحل بديلاً عنها التنضيد الضوئي».
وعن الشخصيات التي التقتها وحاورتها تتذكر قائلة: «التقيت “فالنتينا تريشكوفا” رائدة الفضاء السوفيتية، كان حديثاً رائعاً وكنت جديدة على الصحافة آنذاك كما قابلت المفكرة المصرية “نوال السعداوي” والأديبة السورية “كوليت خوري” التي كتبت عنها يوماً مقالاً بعنوان (أيقونة سورية) وفي يوم صدوره كان ينتظرني مسؤول الثقافة بقلقه وخوفه ليقول: لابد من كتاب اعتذار لأن راعي كنيسة دمشق اعترض على التسمية ( أيقونة ) قلت له: لا شيء يدعو الإعتذار وإن أردت اعتذر أنت، كنت قوية جداً فيما يتعلق بما أكتب، اتصل برئيس التحرير مهولاً الأمر وعندما اتصل بالهاتف رئيس التحرير قال: المقال جيد وهي زوبعة عابرة أحدثتها بعض “الأديبات السوريات” في اجتماع لاتحاد الكتاب وحبذا لو تكتبين رداً بأسلوبك وبالطريقة التي تناسبك، وكان الرد بمقال أفضل من الأول ونقد لاذع لمن لا يجيد القراءة، كانت الكمبيوترات دخلت حديثاً وعلى سطح الشاشة ما يسمى” الأيقونة” فقلت اعترضوا على هذه إذن».
إلى جانب الشخصيات السابقة، حاورت “ميهوب” “ناديا خوست”، التي تقول عنها إنها «خير من كتب عن دمشق وتاريخها لها روايات وبحوث لا تعد ولا تحصى ولا أدري لماذا تم التعتيم عليها مؤخراً ومحي الدين صبحي الناقد السوري الذي مازال يصلح نقده للمستقبل البعيد».
اقرأ أيضاً: “محمد الماغوط”: الكهربا وصلت لقفاي قبل ما توصل لضيعتنا
البلدوزر والرجل المسن
وعن الحوادث والمواقف العديدة التي بقيت في ذاكرتها من عالم الصحافة تتذكر “عفراء ميهوب” تلك الحادثة التي جرت مقابل مبنى الصحيفة التي تعمل بها قائلة: «كنت أنظر من النافذة إلى بلدوزر يجرف البيوت القديمه المتداعية – وراعني أنه اقترب من رجل هرم فقير تكور بجانب الأخشاب التي جمعها وبعض أثمال ثياب ثم قام مبتعداً ويقول كلاماً لم أفهمه، وصادف مرور أمين التحرير فناديته وقلت اكتبوا عن هذا الرجل فابتسم ونادى المصور ولحقنا به، لمحت بقايا لمعان على وجهه، ربما بسبب تعرقه أو بعض دمع عصي على أخاديد وجه حفر فيه الزمن، وعندما سألته أن يحدثنا كانت رواية بومضة قال: عندما دخل الفرنسيون حي الميدان بدمشق هدموا بيتي بطائراتهم، وبعد هذا العمر، وفي أواخر حياتي جاءت البلدية لجرف بيتي».
تضيف : «كتبت مرة مقالة بعنوان لغة الزهور وكانت عن زهور قريتي ومروجها وكيف صنعنا منها التيجان والأحلام الوردية وفي يوم صدورها اتصل عامل الإستعلامات قائلاً : جاء أحدهم وترك لك بوكيه ورد قلت دعه يدخل، قال : لقد ذهب، ويا جمال الورد يا جماله: كان فيها بعض الزهور التي كتبت عنها وفي داخلها المقال معقود بشريط اخضر ومرفق ببعض الكلمات الوردية، فيما بعد علمت أن الفتاة الجميلة في قسم التنضيد (التي أعدت المقال) هي من أحضرت الزهور، كنا كثر في القسم الثقافي وكثرت التعليقات قال أحدهم : نحن الشباب “مابيجينا” الورد، قلت له : لكم المال ( زيادة على الراتب المقرر ) ولنا الورد».
اقرأ أيضاً: طلال شتوي لـ سناك سوري: شهيتي مفتوحة على الحب، وغادرت بيروت لأموت !!!
ومن بداية فتاة ريفية في عمق العاصمة “دمشق”، إلى سيدة ناضجة وصلت إلى مرحلة التقاعد، تقول “ميهوب”: «طيلة خمسة وثلاثين عاماً شاركت في العديد من الصحف والمجلات والدوريات وساهمت في تأسيس بعضها وكنت أبذل قصارى جهدي في تقديم الجيد المفيد ولم يعنِ لي الدخل المادي كثيراً كما كانت التسميات والمراكز الوظيفية لا تعني لي شيئاً، الصحافي هو الأهم من هذه التسميات ، في مرحلة ما بدأ يهيمن مفهوم الكسب والربح على الأفراد وتصدرت الإدارة بقوة بعد أن كان دورها في خدمة التحرير وبدأت الترفيعات والتسميات الوظيفية تخضع لها، كنت صغيرة السن عندما وصل الراتب الوظيفي إلى حده الأعلى مما أثار غضبي ولكنه القانون الذي لا يراعي المشاعر والجهد ، تعدل القانون بعد أن أودى بدرجتين لي من الترفيع وبقيت كما أنا ، عندما طُلب مني لاحقاً أن أستلم القسم الثقافي لم أقبل لأن ذلك سيكون على حساب عملي الذي أعطيته الكثير».
قبيل الحرب تجلت بعض التغيرات والخلل في الكادر الوظيفي وتم نقدها في حينه ويبدو أنه كان طريقاً إجبارياً علينا عبوره وكانت الحرب التي أربكتنا وألقت بأحمالها مضافة ومضاعفة إلى التقاعد.
اقرأ أيضاً: “مُتْ قاعِد”.. المتقاعدون السوريون طاقات مهدورة وجهد مبعثر