الرئيسيةفن

سوريا التاريخية.. من الذاكرة الفينيقية – خالد عثمان

الصيد السوري على إرث الذاكرة الفينيقية

سناك سوري – خالد عثمان

رغم كل الدمار الذي أصاب العالم الفينيقي بين القرنين الرابع والثاني ق.م، على يد الإغريق والرومان، إلا أن البحارة السوريين لا زالوا يحتفظون إلى اليوم بالذاكرة الفينيقية، ولا زالوا يحفظون مواقيت الأنواء والظواهر الطقسية شفاها.

ووفقا للذاكرة المتناقلة لدى البحارة، فان (الأنواء جمع نوّ) هي الظرف الصعب وعكسها (هجعَ أو غلّنْ)، وهناك وصفان أساسيان لحالة البحر (البحر نوّ ،البحر غلّينة)، وما بينهما يسمّى البحر (عنصرة)، وهي الحالة المرافقة للريح الغربي، ومنها جاءت تسمية “أيام العناصر”، وهي ريح غربية خفيفة تأتي في الصيف مدتها أربعين يوماً “يعنصر” البحر خلالها، لكن لا يصل إلى حالة النوّ، بل يكون في حال وسطي (بين النو والغلّينة ).

مقالات ذات صلة

وتسمّى “العناصر” مربعانية الصيف الأولى (مشتقة من الرقم 40 الذي يرمز للإله “إيا أو انكي” سيد المياه العذبة، الإله الثالث في تسلسل شجرة الآلهة السومرية، أسوة بمربعانية الشتاء التي تنتهي في أواخر كانون الثاني )، وتبدأ في الأسبوع الأول من شهر حزيران، وهي أربعين يوماً من الرياح الغربية الخفيفة تبدأ بالهبوب صباحاً وتتلاشى مع غياب الشمس، ثم تهب الرياح الشرقية الخفيفة ليلاً، وهكذا تتناوب الرياح الغربية نهاراً والشرقية ليلاً في نوع من العزف الكوني الذي يطرب له الصيادون، لكن المربعانية تبدأ وتنتهي برياح غربية قوية كاستقبال ووداع لها، ويتراوح موعد وداع مربعانية “العناصر” في الثلث الأول من شهر تموز، فيقول الصيادون: “عم تودّع العناصر، وتستقبل “البرونزات”، وهي مربعانية الصيف الثانية بعد “العناصر”، وفيها يقول الصيادون ” النو نوّ والغلّينة غلّينة” أي إما أن يكون البحر هائجا “نو”، أو هادئا “غلينة”.

في بداية الثلث الثالث من شهر آب تخرج الريح الشمالية (يسميه الصيادون بوعلي الشمالي )، ومؤشر ذلك أن مربعانية الصيف الثانية (البرونزات ) قد انتهت، وأن الخريف قد حل وحلت معه “الغلاين” وهي المربعانية الثالثة بعد مربعانيتي “العناصر” و”البرونزات”، وتنتهي “الغلاين” بين 3-5 تشرين الأول.

قبل أن تخرج الريح الشمالية وتطوي صفحة البرونزات، تسود البحر في الأسبوع الثالث من آب التيارات البحرية الجنوبية التي تحمل إلينا الوحل من الشواطئ المصرية، ما يجعل البحر “عكر” وفق قول الصيادين، ذلك “العكر” القادم من شواطئ مصر يعيدنا بالذاكرة إلى رأس أدونيس المصنوع من ورق البردى السميك، الذي كان يلقيه المصريون على شطآنهم، فتحمله التيارات الجنوبية إلى جبيل، محمّلا برسالة إلى الفينيقيين، تبلغهم انقضاء أيام الحداد على نزول الإله أدونيس إلى العالم السفلي وبدء الاحتفالات بقيامته وعودته إلى الحياة وفقا للكاتب اللبناني سعيد عقل في كتابه “الإبحار الى فينيقيا” .

اقرأ أيضاً: حكاية الرجال الذين قتلوا نسائهم وأطفالهم في المدينة الفينيقية- حسان يونس

ويستمر البحر عكرا في الثلث الأول من أيلول، فتهجر الأسماك الشطآن، وفي 14 أيلول يحلّ عيد الصليب، وتبدأ حسابات طقسية جديدة تعتمد على الاثني عشر يوم التالية لعيد الصليب، حيث يمثّل كل يوم شهرا، وتمثل بداية اليوم بداية الشهر، وهكذا دواليك منتصف اليوم ونهايته.

يمتاز شهر تشرين الأول بالهدوء الطقسي، بحيث يمر خفيف الظل دون أن يشعر به البحارة والمزارعون، إلا ما ندر، وغالبا ما يكون البحر “أيلة” (مأيّل أي كأنه في قيلولة)، ويقول عنه الصيادون (البحر بلاطة)، ويكون البحر كذلك “ناشف” (أي لا سمك فيه) بانتظار أن تعود الأنواء فيعود السمك إلى ارتياد الشطآن. يستمر هذا الحال في تشرين الثاني مع نسيم شرقي يسمى عند البحارة “شلوء” حتى منتصفه، فيحل ميعاد نوة تسمّى “نوة المكنسة” حسب تقويم البحارة بين 14-16 تشرين الثاني، وهي نوة خفيفة بشدتها ومدتها لكنها تنظّف قاع البحر من الأوساخ التي ألقاها إليه البشر وتعيدها إلى الشاطيء، وفي 24 تشرين الثاني يكون ميعاد نوة خفيفة أخرى تسمّى (بقية المكنسة)، وهي تكمل تنظيف البحر من الأعشاب والنباتات البحرية التي ترعرعت في الصيف وتلقيها على الشاطئ.

في نهاية تشرين الأول وخلال تشرين الثاني تبدأ هجرة سمك الطوبار من البحيرات العذبة في مصر إلى المتوسط، وتستمر هجرتها حتى منتصف كانون الأول، وتتضمن الهجرة جولة كاملة حول المتوسط ثم يعود الطوبار إلى موطنه في بحيرات مصر، وكان الصيادون السوريون يتربّصون به منذ شهر كانون أول وحتى نهاية شهر شباط لاصطياده خلال مروره بشكل أسراب عائمة قريباً من السطح، محمّلا من ضمن ما يحمل بذاكرة قديمة تتصل برأس أدونيس المصنوع من البردى الذي يلقيه المصريون إلى المتوسط، فتتقاذفه الأمواج إلى الشطآن السورية.

خالد عثمان.. باحث بالتراث البحري

اقرأ أيضاً: الظواهر الطقسية في الذاكرة الفينيقية_ خالد عثمان 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى