“جُعلت رؤوسنا مدورة كي تغير أفكارنا وجهتها”، بالرغم من هذه المقولة للفنّان الفرنسي فرانسيس بيكابيا (1879 – 1953). فلا زال مفهوم التغيير من أصعب ما يواجهه الإنسان. ونصادف في حياتنا اليومية، مواقف عديدة، عند اتّخاذها (لأنها مختلفة عن المُعتاد) تُقابل بالإستهجان والاستغراب. فمفهوم “المنطقة الآمنة comfort zone” أوجده العلماء ليشير إلى رغبة الناس في المكوث في منطقة واحدة تُشعره بالأمان.
سناك سوري-ناجي سعيد
وأغلب التقدير، يميل الإنسان إلى الماضي الذي يُلخّص مرحلة تكوين الشخصيّة. وليس من المعيب أن نتباهى بتغيير أفكارنا، فالتغيير غالبًا ما يكون تطوّر، واستفادة من الدروس.
ومن هذا المدخل، مدخل القدرة على التغيير، أودّ الدخول إلى موضوع “الوشم” أو الـTattooباللغة الأجنبيّة، وتمتدّ فكرة وجوده من منظور أنتروبولوجي بالبيئة الاجتماعية والتاريخية. وبطقوس دينية وعشائرية تعود إلى التاريخ القديم والحياة البدائية التي تسيطر عليها الأساطير والمعتقدات، حيث يكون لكل عشيرة الوشم الخاص بها. الذي يميزها عن بقية العشائر ويرمز إليها.
وأثناء دراستي الجامعيّة، وتحديدًا في مادّة “تاريخ الفنّ”، كانت المعلومة بأن إنسان الكهف كان يستخدم الرسم على جدران الكهف، فيرسم حيوانًا مطعونًا. مُعتقدًا بأن الحيوان المطلوب اصطياده سيلقى المصير نفسه. ومن هنا لجأ الإنسان في مختلف المجتمعات، إلى “وشم” رمز معيّن على مكان في جسده رابطًا الوشم بفكرة او معتقد يعتنقه.
وأذكر في طفولتي أني كنتُ أرى نساءً من العرب الرُحّل يأتين لبيع الزعتر البرّي وأعشابٍ أخرى، وقد كنّ يوشمنَ على وجوهِهنّ خطوطًا كرموز لا أفهمها. ولاحقًا علمت أنّ الوشم إنّما له بعد عائلي، وهو يدلّ على العشيرة أو القبيلة، وهذه تقاليد موروثة ومن الإستحالة أن تدخل حيّز التغيير. من جهة للإرتباط العقائدي بالرسم الموشوم، ولجهة ثانية، فهي صعبة الإزالة تقنيًّا.
اقرأ أيضاً: الصحة النفسية بأهمية الغذاء لكن لا أحد يعيرها اهتماماً- ناجي سعيد
فما كان من عمّي (رحمه الله) والذي وشم في شبابه رسم المنجل والمطرقة-الذي يعكس انتمائه- أو على الأقلّ ميله إلى الفكر الشيوعي. إلاّ أن غطّى الوشم بوشم آخر لخربشة الرمز وتشويهه، فلا يمكن محو التاتو!! فقرار الوشم يبدو صعبًا جدًّا، وهو أشبه بأيديولوجيا جسديّة، صعبة التغيير. مع العلم بأن الأيديولوجيا الفكرية بالعلم والقدرة والنية على التغيير يمكن تغييرها.
أمّا الأيديولوجيا الجسدية فعمليّة واردة لكنّها شاقّة نوعًا ما. وقد اخترت موضوع الوشم، لألفت رمزيًّا إلى مفهوم التغيير ومدى صعوبته. فمن المستحيل على أي إنسان أن يتّخذ قرار التغيير، فالتغيير يُقلق راحته وراحة محيطه. وقد عبّر الناس عن ذلك بالمثل الشعبي: اللي بغيّر عادته بتقلّ سعادته!. وقد عبّر المثل الفارسي عن معضلة إتّخاذ القرار بـ: “على مذبح القرار ينام الناس نوما عميقا” (مثل فارسي).
ومن ناحية صحّية فلا أعلم عن أضرار الوشم (التاتو) إلّا ما قرأته عن اللاعب البرتغالي “كريستيانو رونالدو” المعروف باهتمامه الزائد وحرصه بالحفاظ على صحّته. أنّ جسده خالٍ من الأوشام، فهو يتبرّع بالدم بشكل دوري، والوشم على الجسد يمنع التبرّع على المستوى الصحّي! وبمعزل عن المستوى الصحّي، فهي حرّية شخصية، تأتي بعد الإيمان الحقيقي لما يودّ الشخص وشمه على جسده.
فهل التغيير يمرّ أمام موقفي وإيماني بالعبقري آينشتاين الذي أنوي شخصيًّا وشم صورته الأشهر وهو يمدّ لسانه للصحافيين الذي لحقوا به ليحصلوا على سبق صحفي. ويكتبوا عن نظريّة النسبية، التي ترمز -بالنسبة لي- أنّها النظرية العلمية التي تطأ ساحة الفلسفة، وقد غيّرت الكثير!. ما أودّ قوله بأن صورة آينشتاين حين أوشمها، فهي أبديّة، وقد أسبقتها الآن بوشم كلمة صغيرة وقابلة للتطوّر: “اتبع عقلك”.
ويمكنني القول: إن قرار اختيارك ما تريد وشمه على يدك أو أي مكان من جسدك، إنّما يعكس أبعاد شخصيتك، وهو قرار شبه نهائي لا علاقة له بجزء مضى من حياتك. فكما تقول فيروز: في ماضي منيح بس مضى/ صفّى بالريح بالفضا.
القرار وليد لحظة “هنا والآن” مع كامل الاستفادة من التجارب الماضية كدروس مستفادة بإيجابيّة.