أخر الأخبارالرئيسيةحرية التعتيررأي وتحليليوميات مواطن

دمشق التائهة في مركزيتها الشديدة – أيهم محمود

ربما لو انتقلت العاصمة إلى "حماة" الجميلة سيعود لدمشق ياسمينها

تختنق دمشق بسكانها الجدد الذين يرفضون العودة إلى مدنهم ومناطقهم الممتدة على كامل مساحة سوريا. تتساءل سيدة “لماذا لا يعودون إلى مدنهم وقراهم؟..فالأحوال هنا ليست جيدة؟”.

سناك سوري – أيهم محمود

تدرك السيدة جيداً أن دمشق التي عرفتها سابقاً تغيرت كثيراً، لم تعد هي نفسها بل مدينةً أخرى مختلفة، لقد امتلأت بضحايا الهجرة من المناطق البعيدة إلى المركز. أفهم بعمق حزن هذه السيدة على ضياع صورة المدينة التي أحبتها، ضاعت غوطة دمشق وبساتينها، ماتت أشجارها لتظهر بدلاً منها غابات الإسمنت والغبار، فقدت المدينة روحها، وبقي الزحام والتلوث والوجوه التي تتعلق بالبقاء فيها حتى آخر فقرٍ وآخر انكسار.

لماذا لا يرحلون حقاً إلى بساتينهم وقراهم؟
لماذا لا يرحلون إلى الأمان النسبي، بعيداً عن أزمات الحياة، وبعيداً عن صعوبات العيش المتزايدة.
لا يبدو هذا السؤال الوردي الناعم الأنيق بسيطاً، فهو يُخفي في طياته ذاك السواد المزعج الذي أخاف منه بعد كل زيارةٍ لي إلى دمشق، هباب الفحم الذي يمتلئ به أنفي نتيجة تلوث الهواء، أنا مثل أسماك البحر، لا أشعر بالارتياح قبل اقترابي من حدود الماء أثناء رحلة العودة من المدينة التي أضطر لزيارتها مُكرهاً بفعل قوانين المركزية الشديدة، أذهب إليها لإنجاز معاملة ما، ربما هذه النقطة هي بداية فهم أسباب السواد.

اقرأ أيضاً:الموت اقتصاداً- أيهم محمود

لم  أرَ الياسمين الدمشقي في كل رحلاتي إلى المدينة المغرورة بزحامها وبياسمينها المُتَخيل في العقول فقط، الطفلُ الأكبر الذي يرغب دائماً بما لدى إخوته من طعام ولا يأبه لأكل حصتهم منه حتى في زمن الشح والأزمات. المركزية، وتركيز الخدمات في العاصمة، هي من أحرق صورة الجمال الهادئ الذي فقدته عينا السيدة اللطيفة الذي بدأنا مقالنا بالحديث عنها، ربما لا تعرفُ العاصمةُ السعيدة معاناة من يقطع أكثر من ثلاثمائة كيلومتر ليذهب إلى مشفى عام مجهز بأفضل الأدوات للتداوي فيه، أو لإجراء عملية جراحية لا يستطيع إجراؤها في مدينته، يذهب كل هذه المسافة الكبيرة ليجد أن الطبيب المعالج له هو ابن محافظته أيضاً، لكن لتركيز الخدمات في العاصمة أحكام قاهرة في العمل وفي مقدار النجاح المالي أيضاً، عندما يتم تهميش المحيط على حساب دعم المركز، وقرار المركز، من الطبيعي أن يسكن الطبيب دمشق ويرفض مغادرتها، من الطبيعي أيضاً أن ترفض بقية الشرائح الإجتماعية مغادرة هذه المدينة التي لم يسأل ياسمينها الرقيق لماذا لا يتأثر عبيري، أو ضميري، بفارق التقنين الكهربائي بين مدينتنا وبقية المدن التي ليست هي دمشق، لا يسأل الأخ الكبير لماذا لا يأكل إخوته الصغار كفايتهم من الطعام، وهمُ الياسمين يشبه في تأثيره الناعم تأثير السموم البيضاء الذي نستنشقها ليذهب الوعي في الخدر وفي الغياب.

لماذا لا تكون العاصمة حمص أو حماة؟ فهي المركز الجغرافي، وهي الأفضل لقطع المسافات من كل مدن سوريا إليها، ربما لو انتقلت العاصمة إلى “حماة” الجميلة سيعود لدمشق ياسمينها، وسيجد سكانها فرصة حقيقية لاستعادة جمال مدينتهم، لكن من يستطيع التخلي -بعد طول إدمان- عن مركزية القرار، وعن لذة تدفق المال الذي تولده هذه المركزية الشديدة؟.

لن يعودوا أبداً إلى قراهم ومدنهم. سوف أخيب -للأسف الشديد- أمل السيدة اللطيفة بهذه النبوءة، لن يعودوا لسبب بسيط جداً ومنطقي! وذلك بسبب المركزية الشديدة ونتائجها حتى في أحلك الأزمات وأصعبها!. هذه المركزية التي ستبقى عبئاً على دمشق من حيث خلق المشكلات وتراكمها فيها. وعلى باقي المحافظات لناحية تهميشها على حساب المركز. ربما يعودون يومياً لكن عندما يكون لدينا لامركزية فعلية وتنمية محلية وتوزيع للموارد عندها ربما سيجد المزارع مياه يسقي بها أراضيه والطبيب مستشفى بأدوات جيدة يعمل فيها والخبرات المحلية فرص عملها في مناطقها وسنجد مناطق مزدهرة ودمشق تشع بياسمينها من جديد.

اقرأ أيضاً:كيف نصنع مأساتنا بأنفسنا -أيهم محمود

زر الذهاب إلى الأعلى