مذ عرف السوريون الوعي كمواطنين في هذه البلاد منذ عقود إلى اليوم. لم يعرفوا غير نوع واحد من الخطابات الرسمية بلغته ومفرداته يردده السياسيون والحزبيون والمسؤولون الحكوميون. خطاب لم تتطور مفرداته ولم تتغير أدواته بما يواكب متغيرات العصر.
سناك سوري – بلال سليطين
الخطابات في سوريا يرددها الإعلام والمؤسسات التربوية والتعليمية والسياسية وووإلخ وعندما ينتهي ملقي هذا الخطاب أياً يكن ينتهي الحديث فلا مجال للاستماع للآخرين. فهو خطاب من جهة واحدة. ومقدمه مقتنع أن الآخرين عليهم تلقيه فقط والاقتناع فيه وواثقٌ بأنهم اقتنعوا.
وهنا لا ننتقد هدف الخطاب. فهذا ليس موضوعنا. وإنما حديثنا على أسلوب تقديم الخطابات الثابت منذ عقود في سوريا. رغم تغير الجمهور وثقافته وأولوياته وأسلوب حياته وصولاً إلى طرق التأثير فيه. فهذه المعطيات لا تعني مقدم الخطاب الذي يتمنع عن تغيير أسلوبه حتى. فكيف بتغيير محتواه.
الخطابات في سوريا مثال حي منذ عشرات سنين لما يمكن تسميته “مرحلة عدم الهضم” وهي مرحلة مستمرة. وتتجلى في أمثلة عديدة تعكس تارةً الخوف من كل جديد والاقتصار على استيعاب كل ماهو استهلاكي تارةً أخرى.
حالة عدم الهضم أدت لوجود جدار عازل بين المواطن والدولة. المواطن بصورته المتغيرة واختلافاته وإدارة الدولة بصورتها الثابتة العصية على قبول أي جديد أو استيعابه. ومسببات عدم القبول كما أشرنا سابقاً تتجلى في الخوف من كل جديد (مؤامرة). فكانت المحصلة أنه لا قبلنا الجديد ولا استطعنا التطوير وفي الحالتين كانت الدولة هي الخاسر.
اقرأ أيضاً التَنمُّر على الإصلاحيين – بلال سليطين
والهضم ليس المقصود به الحالة الاستهلاكية وإنما الحالة الإنتاجية والاستيعابية. فعلى سبيل المثال ألعاب الفيديو التي تولع بها الأجيال الناشئة منذ عقود. اقتحمت المجتمع السوري بسهولة كجزء من هذا العالم. لكن سوريا لم تتلقف هذه الألعاب ضمن سياق محلي وتستوعبها وتعيد انتاجها بما يخدم الحالة السورية. وإنما تم استيعابها فقط كحالة استهلاكية.
الجيل كان يهضم كل جديد ويتفاعل معه (الرياضة مثلاً) بينما الدولة لم تكن كذلك. الدولة هنا تتجسد بعقلية إدارتها والقائمين عليها. والمثال السابق هو أبسط مثال عن هذا الأمر. فالبلاد كانت وماتزال منفتحة على استهلاك الموبايل منغلقة على استيعاب من هم قادرون على صناعته.
لدينا شواهد عديدة. المجتمع المدني مثلاً حالة عالمية وهي مولدة في مختلف دول العالم. لكنها غير مهضومة في سوريا وتشعر وكأنها تغصص السلطة التي “تخاف منها” رغم أنها موجودة بأشكال مختلفة (مقيدة). بينما بإمكانها هضمها وإعادة انتاجها بضوابطها المحلية مثلاً.
أيضاً الكوادر البشرية المميزة. كانت ومازالت تختار الهجرة والنجاح في الخارج. ليس لأنها غير قادرة على النجاح في الداخل. وإنما لكون الحالة القائمة هي حالة تمنع عن إعطائهم فرصتهم. فالنظام الإداري أو الإيديولوجي قائم على طريقة ثابتة تتمنع عن استيعاب الكوادر البشرية وإعادة إنتاجها ضمن مشاريع وطنية محلية بما يخدم عملية الاستمرار والإنتاج بأشكاله المختلفة “مادية أو معرفية”. وخير مثال هو الإعلام السوري وكوادره التي تبدع في الخارج.
اقرأ أيضاً الشفافية التي نحتاج تطبيقها – بلال سليطين
طبعاً عدم الهضم لا يعني استمراره إلى الأبد ففي بعض الحالات تحدث متغيرات وإن كانت محدودة و”بهضم بطيئ”. وربما يحدث انقسام داخلي بين صناع القرار حول الهضم. وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في موضوع “أتمتة دوائر الدولة” قبل قرابة 10 سنوات. فكان هناك تيار لا يثق بالكمبيوتر ويرفضه وتيار يدعو لتجريبه. وطوال فترة طويلة كان المتحكم هو التيار الذي لا يثق بالكمبيوتر (بالآلة). وفي النهاية أجبرت الحاجة الطرفين لتقديم بعض المرونة وأدخلت بعض أنظمة الأتمتة إلى بعض الدوائر.
كما يشكل قانون التظاهر مثالاً هاماً. فالبلاد التي يسمح دستورها بالتعبير والاحتجاج وفيها قانون للتظاهر جاء كحالة استيعابية. لم تستطع السلطات فيها هضمه وبالتالي لم تمنح تراخيص لاعتصامات احتجاجية وحدها المسيرات التصفيقية متاحة.
ينسحب الأمر على موضوع الاختلاف السياسي والاقتصادي والثقافي. والتمنع على هضم المختلفين “معارضين. مفكرين. كوادر بشرية..إلخ”. وإقصائهم ونبذهم ومحاربتهم. فهناك مسار واحد في كل المجالات إما أن تكون معه أو تستبعد. ولا مجال نهائياً لتركك تجرب مسارك ولو ضمن حدود من باب الاختبار والاحتياط لعل المسار الآخر لم يكن ناجحاً. هناك مسار واحد وفقط لاغير.
تتجلى بوضوح في سوريا أزمة صعوبة هضم كل ماهو جديد. وعدم الهضم ينعكس بالمنع أو المحاربة فهذه هي خيارات عدم القدرة على استيعاب المتغيرات والتطورات. وهي خيارات تضرر منها الدولة والمجتمع على حد سواء.
لقد أدى عدم الهضم لتراكم “الغصة” في سوريا حتى أصبحت جبلاً يكات يخنق البلاد التي تحتاج دفعاً للهواء فيها. دفعاً لاستيعاب المتغيرات لا التسليم لها. دفعاً يؤدي إلى الهضم وإعادة الإنتاج ضمن سياق وطني.