جرمٌ صغير.. خلّيني ساكت أحسن – ناجي سعيد

“داخل كُلّ إنسان ذئبان، أحدهما خيِّر والآخر شرير، ولك القرار، الذئب الذي تُطعمه ينمو ويكبر..”
سناك سوري – ناجي سعيد
“وتحسب أنّك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبر”.. يُنسب هذا البيت من الشعر إلى كثيرين، والصحيح برأيي: أنه لمحي الدين بن عربي “الصوفي الضال صاحب عقيدة وحدة الوجود”، ومعيار تصديقي نَسبِه لإبن عربي، قائمٌ على تقارب فكر الصوفيين من معنى هذا البيت، فالفكر الصوفي يعتقد بوحدة الوجود، والتي تقول بأن الوجود هو مساحة يشترك فيها الخالق بالمخلوقات على اختلاف طبيعتها، (حيّة أم غير حيّة) وهذا بالضبط فحوى الشطر الثاني من البيت: ..وفيك انطوى العالم الأكبر.
ومن الطبيعي أن يؤثّر تقديرك لذاتك على إدراكك لها، لتظنّ نفسك جرمًا صغيرًا، بينما استنادًا لعقيدة وحدة الوجود، فيك انطوى كلّ العالم. وما أقصده أنّ هناك مُتّسع فارق بين ما ندركه عن أنفسنا بسبب علاقاتنا مع الآخرين، وبين ما هو حقيقة بداخلنا.
نعم فعمليّة إدراك الذات تحمل جانبًا يسهل على الإنسان معرفته، وهو الجانب الحسّي الملموس والمتعلّق إدراكه بعمل الحواسّ (النظر، السمع، اللمس..)، وما يجشّم الناس مشقّة فهمه، هو الجانب المعنوي من النفس البشرية والمتعلّق بالشخصية العميقة التي تعكس فكر الإنسان، مبادئه وقيمه. ومن الطبيعي أن لا نستشعر قيمة الصدق من خلال العيون الزرقاء مثلاَ. فمن الصعب على الإنسان معرفة قيم الآخر ومبادئه من خلال شكله الخارجي. وهذا ما يُسمّى اختلافًا وليس خلافًا.
اقرأ أيضاً فرخ البط عوام – ناجي سعيد
لذا نجهد في تواصلنا اللاعنفي مع الآخر أن نسعى لإزالة الفوارق غير الظاهرة، بين البشر، فهي تشكّل حدودًا وتبني حواجز تعيق عملية التواصل بين الناس. والمؤسف بهذا الربط بين الشكل الخارجي للإنسان وبعض الصفات القيميّة، أن أغلب الناس يعتقدون بها، لا بل يبنون أحكامًا مُسبقة توصم الآخرين بها. فمن المُتعارف عليه شعبيًّا أن كُلّ “أصلع” هو إنسان ذكي، وصاحبة العيون الزرقاء محتالة وجميلة..مهلاً ليس هذا ما تودّ قوله في الحديث عن التناقض بين خارج الإنسان وداخله، فحديثك يفضي إلى قيمة وأهميّة التواصل اللاعنفي، في توضيح حاجات الإنسان ورغباته لتكون واضحة خلال تواصله مع الآخرين، نعم وبعد هذا التوضيح، هل ينبغي أن يحضر الإنسان ورشة تدريبية موضوعها التواصل اللاعنفي ليصبح خبيرًا بذلك. إن التواصل اللاعنفي هو عمليّة مستمرّة، ولا تحمل مدّة صلاحية، فتنتهي بانتهاء تواصلك مع الآخر، بل تنسحب على تواصلك الدائم مع ذاتك.
نعم يمكننا القول بأنّ فساد هذه المادة (التواصل اللاعنفي) مرتبط عضويًا بفساد الإنسان، فحين يكون الإنسان موجودًا كقيمة حاضرة وفعّالة، بالطبع يمكن للتواصل اللاعنفي الوجود والثبات. فهما صُنوان يعيشان معًا ويموتان معًا. وفي السياق نفسه، لايمكن للإنسان أن يمارس التواصل اللاعنفي في حياته، ويتخلّلها تصديق (وأحيانًا نشر) الشائعات التي ضررها قد يكون مزدوجًا : أوّلاً، تصديقها دون التأكّد من صحّتها. ثانيًا، نشرها، وذلك لأثرها السلبي ولو كانت صحيحة. فمن الصحّي أن لا ننشر “السلبيّات” قطعًا، وليس هذا هروب من الواقع كمن يُغمض عينيه عن الحقيقة، فالبديل الموجود لعدم نشر الشائعة هو مواجهتها قسرًا وبشكل غير مُعلن . وليس مستحيلاً ما أقول، وأذكر هنا الحديث النبوي:
” إماطة الأذى عن الطريق صدقة”، فقد ربط النبي أساسًا للإيمان، ليس محبة الخير لهم فقط، بل إماطة الأذى عن طريقهم.
وفي سياق حديثنا، ولمواكبة أحداث واقعية نمرّ بها، لقد أوردت سندًا إنسانيًّا ودينيًا، حيث يجتمع الإثنان على المصلحة العامة والخير. ويهمّني جدًّا وليس من باب إقناع الآخرين بالقوة بل مجرّد طرح تساؤل يثير التفكير الداخلي ومراجعة الذات:
هل نقل الأخبار (الصادقة وغير الصادقة) بطريقة عشوائية تعرقل مسار تحقيق أي هدف نبيل وإنساني؟؟
هل يُسمّى الخبر الصادق الذي ينتشر -كما النار في الهشيم- إشاعة؟
يقول عمر الخيّام: “الجنّة والنار هُما في ذات نفسك”، وهذا مبدأ يختصر فلسفة حياة، ولتتوّج هذه الحياة باللاعنف أنصح بما نصحني به أستاذي (“فرانسوا بازييه” وهو فرنسي الجنسية) خلال شرحه مادة التواصل اللاعنفي:
“داخل كُلّ إنسان ذئبان، أحدهما خيِّر والآخر شرير، ولك القرار، الذئب الذي تُطعمه ينمو ويكبر..”
اقرأ أيضاً القناعة كنزُ فنى وولَّى زمنه – ناجي سعيد