سناك سوري-ناجي سعيد
لا يوجد طريقة واحدة للتعبير. فالتعبير هو ترجمة للمشاعر والحاجات والأفكار، ولكنّ كيف؟، وأية مشاعر وحاجات وأفكار؟ أذكر تمامًا أن تركيبة شخصيّتي، وعلى الأرجح البيولوجيّة، أو الفلكية مثلاً.. جعلت منّي خجولاً بعض الشيء، وهذا الخجل الذي لا أعلم مصدره، لكنّي أجزم أنّه ليس من البيئة العائليّة، فأسرتي كانت حريصة على تأمين مساحة حريّة تعبير لكلّ فردٍ من أفرادها. لذلك ولأنّي لا أملك الجرأة في التعبير كالآخرين، فقرّرت عند انتهائي من مقاعد الدراسة الثانويّة، أن أنتسب إلى قسم الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية (الرسم والتصوير الزيتي).
والنصيحة من السابقين في رحلة الفنّ على متن الدراسة الأكاديميّة كانت بأن عليّ التسلّح بالثقافة الفنيّة. بمعنى أنه يجب عليّ الاطلاع على تاريخ الفنّ. من هي أهمّ المدارس ومن هم الفنّانون روّاد هذه المدارس. إلخّ؟ ومن الطبيعي أن أجد في مكتبة العائلة، كُتبًا تعكس الفكر الماركسي الذي تميل إليه عائلتي. والكتاب الذي وجدته، يفضي عنوانه (بصدد الفن) إلى تقريرٍ صادر عن لجنة شؤون الفنّ المنبثقة عن اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي السوفياتي!.
وما هذه المُقدّمة إلاّ لأقول ما علق بذهني من هذا الكُتيّب، ما يُجيب على سؤال البداية المُتعلّق بماهيّة التعبير، كيف وعن…؟، فبحسب مؤلّف الكتاب وأذكر أنّه لمُفكّر سوفياتي حينها اسمه “بليخانوف”، هذا لو افترضت بـأنّ الفنّ طريقة تعبير، فقد قسّم الفنّ إلى: فنّ للمجتمع وفنّ للفنّ. ولن أدخل بتفاصيل المعلومات التي أفادني بها صديقي العازف الموسيقي المحترف طارق، عن المقامات وأنواعها وأي منها من النوع الثقيل أو الخفيف. وما أقصده بالثقل والخِفّة، هو سهولة تركيب جملة موسيقية لحنية (ميلودي). لكنّ المشترك بين طارق وبليخانوف، هو جودة استعمال الفنّ (المقامات الموسيقيّة) عند الأوّل، والنظرية التي أطلقها الثاني.
اقرأ أيضاً: الإعدام.. نقتل إنساناً لنخبره ألا يقتل أحداً – ناجي سعيد
فالفنّ يكون للفنّ، ومجرّد ضرب رفاهية فارغ، لو لم يُحسن الموسيقيّون وضع كلّ مقام في مقامه الصحيح. ولا يوجد في عالم الموسيقي صحيح ومُعتلّ!! فالموسيقى هي حنجرة من ابتكار الإنسان، ولكنّها محاكاة لأصوات الطبيعة: حفيف أوراق الشجر، العصافير، خرير المياه والعديد من الحيوانات.. ولا يمكن لهذه المحاكاة الربّانية أن تسمح لأشخاصٍ يدّعون الفنّ أن يُطلقوا أغنية وتضرب! أشخاص هم انعكاس لحالة مرضيّة تتأرجح بين غياب الوعي الفردي الناتج عن ابتذال الهويّة الجماعية، وتحديدًا الجزء الثقافي والفنّي من هذه الهويّة المُتضعضعة! لا أوجّه التهمة واللوم لأحد. فمن الناحية الفلسفية، يتسابق البشر وبهدف تسهيل حياة الإنسان، إلى الوصول إلى ما يقولون بأنّه: “تطوّر”! التطوّر كما يقول المثل الفرنسي: c’est le qualite pas le quantite فجهل الناس يجعلهم يحصرون التطور بالحصول على الرفاهيّة.
وكما كان يقول لنا الدكتور في الجامعة حين ابتُكر جهاز التحكّم عن بُعد بالتلفاز (ريموت كونترول): “طُولتْ إيدو هالإنسان”!! وعودٌ على بِدء، فالموسيقى لا تُنتج ابتذالًا أو فنًّا هابطًا، وبالرجوع إلى الموسيقى يُمكن أي شخص يعي ذاته وما الذي يناسب حالته، ليختار لها الموسيقى المناسبة، وفي حال عدم التطابق بين الحالة النفسيّة والموسيقى المسموعة، فالفائدة التي تحصل بقوّة هي مهارة الإصغاء والاستماع. ليس سخيفًا من غنّى “بسبوس عاشق بسّة..” فالموضوع بحسب صديقي العازف، ومن باب عالم الأغاني، يرتكز على “القفشة” ويشبه في مجال الإعلام، البرامج الفضائحية، ويقال لها “scoop”، حيث يفاخر المُقدّم بإحراج الضيف من خلال أسئلة مُعينة، وكل همّه مُصوّب نحو رفع نسبة المشاهدة للمحطّة (rate). ليست تفاهة أن يعشق بسبوس بسّة، بل هو محاولة خاطئة لكسر المُحرّم (taboo) من خلال استساغة الناس لكلمات الأغنية: ..يدلّعها بسبوسة ويلحقها من بيت لبيت ويقلّا عطيني بوسة.. كاس العرق يا كاسي..
فاللهجة المُعتمدة للأغنية، تدلّ على أنها من بيئة بدويّة حيثُ الخمر مُحرّم والعشق والحبّ خطّ أحمر صعب التجاوز، لتختم الأغنية بالعودة إلى “النق” الذي يحاكي الوقوف على الأطلال في الشعر الجاهلي: ..هجروني أعزّ ناسي، الله يلعن عشرتهم يلّي وجّعلي راسي..
اقرأ أيضاً: اصغِ.. تُصغي لكَ الدنيا – ناجي سعيد