تتصارع الهويّة الفرديّة مع الهويّة الجماعيّة باستمرار، وهذا يظهر من خلال أمور عديدة. والكلّ يعلم بأنّ المشاعر – وهي نتاج فردي- تكون من الضحايا الأولى لهذه الهويّة الجماعيّة.
سناك سوري-ناجي سعيد
وانطلاقًا من المثل الشعبي التي تردّده أمّي على مسامعي: “كلّ واحد بيلبس قَبعه وبيلحق رَبعه”! فتجربة خسارة الأب، لا تعكس المشاعر الحزينة، إلاّ على من عرفه. بدءًا من عائلته الصغيرة إلى الكبيرة إلى دائرة معارفه الواسعة التي تشكّلت على مدار التسعين عامًا ونيّف الذي عاشه.
هل سيوافق أبي لو كان حاضرًا، على الخلط بين المشاعر والتقاليد الاجتماعيّة والدينيّة؟ ليس هذا سوى تساؤل نابع من منطقة مشاعري التي أود أن أسقطها على ما يعتبره الناس واجبات دينيّة.
ومع تقديري واحترامي للدين لا بل للمذهب الذي وُلد على بطاقة هويّتننا، هل يدرك الواجب الديني ردّة فعلي على مشاعر الحزن على يوسف؟ وهل يعلم الشيخ أو القارئ أثناء العزاء. بأنّي وأجزم أن أمّي وأخوتي لا ينصتون إلى القرآن في العزاء؟ فصوت المشاعر التي تفتعله الذاكرة المشتركة مع أبي أقوى من كلّ ما تُحدثه الهويّة الجماعيّة أدينيّة كانت أم مجتمعيّة!.
أليس من حقّ القرآن وهو كلام الله أن نُنصت له حين يُقرأ؟ أنا مُدرّب (وهذا عملي) على التواصل اللاعنفي، وأدرك تمامًا، أنّه من الضروري فهم مشاعرنا وكيف تحرّك سلوكنا! والسلوك الذي تحرّكه مشاعر الحزن لا يدخل في نطاق الواجبات التي تفرض علينا الإنصات للقرآن إذا ما قُرئ.
اقرأ أيضاً: بيوم الصحة النفسية العالمي ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان – ناجي سعيد
فمنطقة التخيّل في الدماغ، تعمل كوظيفة دماغيّة، لتحرّك مشاعر الحزن، وبهذه الحالة لا تعمل وظيفة “الفهم” التي تبدأ بعمليّة الإنصات. هذا الكلام يصف حالتي التي أفصل بها بين المشاعر والمواقف والأفكار.
فما حالة الناس الذين يحضرون لأداء واجب العزاء لمحبّتهم بأبو عادل؟ فأقول ما شاهدته – أزعجني جدًّا- حين أسمع ردّ أخي الكبير على أحد الأقارب، حين سأله: من تُقلّد من المراجع الدينيّة؟ فأجاب أخي بمنطق واضح، لا يقسّم الأديان إلى مذاهب: أُقلّد القرآن الكريم! فسكت السائل مشدوهًا!.
التقاليد الاجتماعيّة تفرض على السائل أن يعرف عن كلّ شخص أي مرجع يتبع، وهذا ليُذيب هويّته الفرديّة في وعاء الهويّة الجماعيّة، لتصنيف البشر: من معنا ومن ليس معنا! وهذا استنتاج واضح يفضي إلى وضع الدين في خانة المساحة العامّة، وهي ليست إلاّ مساحة فرديّة خاصّة من شأن الأفراد لا الجماعة.
المشاعر الفرديّة هي من اختصاص هويّة الفرد، فمن يشعر بالفرح او الحزن او الخوف حتّى، يقتصر على شخصه فقط. فلا يشعر المجتمع بأكمله مثلما يشعر. الشعور الجماعي هو شعور مشترك بين أفراد منبعه الفرد لا الجماعة. التقاليد والأفكار والمعتقدات، أنتجتها أفراد ثمّ تحوّلت إلى المساحة العامّة.
الشعور ينتج عن حالة يمرّ بها كلّ فرد، ولا يطمح إلى تعميمها وتبشير الناس لإتّباعها. أمّا الأفكار والمعتقدات، فيعمل على نشرها حين يعتقد الفرد بأنّها مفيدة وصالحة للمجتمع.
لا أودّ بالطبع تعميم ونشر موت أبي ولا الحزن عليه لمن لا يعرفه أو يعرفني حتّى. لكن الثقافة والمعرفة والتجربة اللاعنفيّة التي عاشها أبي اود أن يعرفها كلّ العالم. فوقت الإجتياح الإسرائيلي، حين فرض الإسرائيليّون على الناس أن يتجمّعوا في مدرستين لتفتيش المنازل، مدرسة للرجال والشباب ومدرسة للنساء والأطفال، ذهب أبي وأخوتي الشباب إلى المدرسة للتجمّع. وطلب من أمّي ونحن الصغار (كنّا أربعة) ان نبقى في المنزل، فنحن لا نملك السلاح ولا نخاف. كان أبي يمتلك جرأة المواجهة، وأورثنا إيّاها!.
فهل تُدرك تقاليد الدين والمجتمع خصال أبي لتتكلّم عنه؟ وهل تعوّض مجالس العزاء التقليديّة خسارة أبي؟ مع تقديري واحترامي لكلّ التقاليد الدينيّة والإجتماعيّة، فقد علّمني أبي أن أطرد الخوف من داخلي، لأقول أن الهويّة الفردية ستعترف بغياب أبي لكنّها لن تخضع للهويّة الجماعيّة والتقاليد التي تلغي الأفراد المُميّزين، كأبي.. فأنت يوسفٌ يا أبي.