الرئيسيةيوميات مواطن

الهاتف الأرضي ودفتر التلفونات.. صديقا ذاكرة والدي

لا أحد يرد.. هذا سافر وذلك لم يعد يستخدم الهاتف الأرضي وآخر مات

تبقى طاولة الهاتف الأرضي، هي الجزء المحبب في منزلنا عند والدي، المواظب على تفقده مع دفتر التلفونات بشكل يومي كل صباح، فهم في نظره ماتبقى من ذكريات.

سناك سوري _ تلفون أرضي

فقد رفض والدي مجاراة الواقع، واقتناء جهاز حديث يواكب به التطور الحاصل، ليبقى خلافنا الدائم (شيلو هالموبايلات وحكوني مشتاق لاصواتكم). إضافة لمشكلة تطرأ أحياناً عند قيامي بوضع الدفتر في الدرج بعيداً عن الجهاز.

أحاول وأمي بالقدر المستطاع أن نلبي رغبته، فهو الفاقد لضجيج أولاده أيضاً، الذي رحل معهم مجازياً لبيوتهم الجديدة مع أزواجهم وزوجاتهم.

فمهمته الصباحية باتت أن يحضر “دفتر التلفونات”، و يتفقد أسماؤه، (هاد مات رح اشخط رقمو، وهاد صار برا سوريا، وهاد كأن مغيرو ماعم يرد). ليبقى في حالة تساؤل هل لم يعد هناك هاتف أرضي في منزل أحد، لما لا أجد أحداً.

والدي امتد خلافه ليصل لأحفاده، الذين ظنوا أن الهاتف الأرضي لعبة وقاموا بكسره بشكل فجائي. ما سبب له حالة من الحزن، أجبرته في صباح اليوم الثاني أخذه للتصليح، فهو يحب صوته المربوط بماضيه الجميل.

و تجنباً لتكرار الحادثة، ما أن يسمع أصواتهم حتى يركض نحوه و يرفعه عالياً لكي لا يصيبه ضرر، وعلى حد قوله (لساتهن صغار ما رح يعرفوا قيمتو هلق).

أتابع عن كثب تلك التفاصيل، و أدرك جيداً مايعيش أبي، فأنا عاصرت تلك الفترة الذهبية التي مرت على كل منزل سوري، وكنت شديدة التعلق بالهاتف الأرضي أيضاً. فأنا مثله أشتاق لحديثي المطول مع صديقتي لأسألها عن وظائفي المدرسية عند غيابي.

اقرأ أيضاً: جيل الموبايلات مقابل جيل الصحف الورقية – أيهم محمود

ولكن في جزئيةٍ ثانية، تعلُّق أبي مختلف تماماً عني، فهو ليس وسيلة اتصال فقط، فذاكرته مليئة بمئات الأرقام والأسماء. بحكم عمله السابق الذي كان يحتاج لتواصل دائم مع المحيط.

وبتدقيق في أسماء الدفتر، أعلم جيداً أنه يشكل تاريخاً طويلاً في حياته، والكثير من العلاقات والمعارف شملت محافظات ومناطق مختلفة من البلاد. وليس من السهل عليه بعد 68 عاماً أن يتخلى عنها بتلك السهولة.

فقد أراه وأبناء جيلي أمر لا أهمية له، وآباؤنا في ذات الوقت يرونا نحن من أفقدنا أهمية تلك الأشياء بانغماسنا المفرط بتفاصيل أبعدتنا عن واقع شكل أساسنا الثابت. وبتنا سريعي التخلي عن أي شيء لايعني المرحلة التي نعيشها.

فما أراه أنا عبارة عن سجل أرقام و هاتف مفصول، هو جزء مفصلي من تاريخ صحيح، أحاول إنكاره بعض الأوقات دون سبب واضح.

اقرأ أيضاً: رحلة التراسل في سوريا.. من البريد الورقي إلى الواتس اب

زر الذهاب إلى الأعلى