المعارضة والموالاة بالنسبة لمواطن: الحكومة ورطته.. المعارضة طردته.. وزوجته قضت عليه
ولكن ما قضى عليه كان زوجته
من المهم في البداية توضيح بعض الأمور للقارئ. في هذه القرية والتي سأسميها مجازاً “قرية ما”. تمكنت الفصائل المسلحة التابعة للمعارضة -والتي قوامها جيش من الفلاحين والمزارعين والعتّالين الذين حولهم التهميش والعنف إلى محاربين- من السيطرة على هذه القرية منذ سنوات. وبسبب ضعف الخبرة وقلة الدراية بأمور الإدارة وشحاحة التمويل لديهم بقيت مؤسساتها بعمالها وموظفيها مرتبطة مركزياً مع العاصمة الخاضعة لسيطرة الحكومة. الأمر الذي سمح بخلق شريحة كبيرة من الموظفين والطلاب ليكونوا سفارات متنقلة بين مناطق المعارضة والموالاة (أو مناطق الحكومة بالأحرى).
سناك سوري – شاهر جوهر
في نهاية شهر نيسان من العام الفائت. في حي قديم من أحياء العاصمة. وأمام أحد البيوت الدمشقية القديمة توقفت السيارة. ترجل “أبو زكريا” الموظف الحكومي البسيط برفقة اثنين من رجال المخابرات قاموا بدعوته على غفلة أثناء قدومه من قريته إلى دمشق لاستلام راتب نهاية الشهر. وبطريقة مؤدبة ودرامية لم أشاهدها إلا في قناة “سوريا دراما” تمت دعوته إلى فنحان قهوة مع موسيقى هادئة لفيروز. وللأمانة لو لم يكن صاحب الدعوة قد سردها لي بطريقة لطيفة وأسبغ عليها طابعه الفكاهي لقلت إنه مشهد درامي لا أكثر.
دخلوا معاً إلى مقهى دمشقي وجلسوا مع “أبو زكريا” الذي بدا الخوف عليه واضحاً. وبادره عنصر بالحديث قائلاً :
– أنت رجل طيب. ونحن نعلم جيداً أنك رفضت أن تحمل السلاح وتساعد “الإرهابيين” أو من يسمون أنفسهم “معارضة” لتدمير مؤسسات الدولة التي تأكل من خبزها وتطعم أولادك. نحن نعرف كل شيء عن حياتك. ونعلم أن الارهابيين قد سرقوا ممتلكات المؤسسة بعد أن حوّلوها إلى مقر لفصيلهم. ورغم ذلك لازالت الدولة تمنحكم رواتبكم.
بَهُتَ “أبو زكريا” لكلامه وازداد قلقه. وبعد حديث طويل طلبوا منه العمل معهم لتقديم معلومات أسموها “خدمات تهم بلادنا بالدرجة الأولى” تتمثل هذه الخدمات بالتجنيد لصالح الحكومة.
وحتى يظهروا له حسن نيتهم. طلبو منه التفكير في الأمر بتروي. فعاد إلى البيت يترنح من بعيد كمن خاب سعيه. وما إن اقترب من زوجته. حتى انتصبت لعودته مثل «عامود البرق» كما يحبذ وصفها دائماً. فلم تكن زوجته “نائلة” (والتي حولت اللهجة البدوية اسمها إلى “نايلة”) من النسوة ذوات الرأي السديد. أعني ممن يقدّمن نصائح يُعتّد بها. كما أن منظرها يوحي بالتغابي. ترتدي طوال النهار مانطو أسود ثخين وطويل تآكلت أكمامه. كما وجدت من طرفي هذا المانطو طريقاً تمسح به يداها المتسختان دوماً من دخان “البابور”. فراتب زوجها لا يكفيه ثمن طعام لابنائه وأسعار وقود الطبخ خيالية بعد الحرب.
اقرأ أيضاً: وفاة الكاتب حكم البابا .. شاعر كتب المسلسلات وتشدّد في المعارضة
دخلا البيت. وراح يشرح لها بإسهاب وبتفاصيل دقيقة ما حدث معه في هذا النهار المتعب. وكيف أن الحكومة تريده أن يعمل بموالاة لصالحها مقابل معلومات عن تحركات المعارضة هنا.
وحين سألته زوجته «أين الورطة في الأمر. .?». زمّ فمه وراح يتمتم. ثم قال بجدية زائفة :
– قاموا بتهديدي إن بحت بذلك. وقالوا أيضاً أنهم سينتقمون مني بقتلكِ قبلي لأنهم يعرفون أن قلبي المفطور بكِ سيحترق على موتك يا نصفي الحلو.
لهذا أخذ الزوجان يبحثان عن أقل الاحتمالات سوءاً. وكانت تلك المدة التي لا تتجاوز الأسبوع من أكثر الأوقات حيرة وحرجاً. بعدها بدت على وجه الزوج رغبه قلقة بالأخذ في نصيحة زوجته. فاندفع الى أحد مشايخ القرية ليصطحبه إلى قائد أحد الفصائل التابعة للجيش الحر. الذي اتخذ من مؤسسة البرق مقر عسكري له.
كان قائد المجموعة شاب وسيم يقترب من الثلاثين خرّشت سني الحرب وجنتاه ووجهه. و تسللت خصل شعره الطويله من تحت منديله المهدّب حتى غطت كتفيه. كما كان في تلك الأثناء يخلل أصابعه في لحيته الهدباء منشغلاً في حديث عميق مع بعض عناصر مجموعته ممن يطلق عليهم عموماً في البلدة “الشباب” أو “الإخوة”. جميعهم منفوشي الشعر. وبعيون ارتمت عليها ظلال أرق وتعب عميق. وبثيابهم الرثة تربّعوا في غرفة صغيرة كانت مخصصة لأرشفة وثائق وكتب المؤسسة. في حين أفرغها عناصر المجموعة من محتوياتها وافترشوا أرضها بالاسفنج والحصير.
اقرأ أيضاً: بتهمة “موالاة الحكومة” فتح تحقيق لمنع حفلة حسام جنيد في فرنسا
وبما أن علاقة الوجه بالوجه هو ما يسود علاقة السكان في القرى. سرد له “أبو زكريا” بوجل حكايته. فطلب منه تقديم المشورة بحكم القرابة. والذي بدوره نصحه بلزوم الصمت لحساسية الطرح. وفعلا اتبع الموظف النصيحة. لكن سرعان ما انتشر الخبر في القرية. وراحت تتداوله النساء على لسان نائلة.
لهذا السبب زاره قائد المجموعة سراً في بيته. وهو شخص لا يحبذ “الموارضين” ممن يقفون في الوسط على مسافة واحدة من المعارضة والموالاة. إلا أن العِرق يضرب ويحن. لهذا زاره ناصحاً له بضرورة ترك القرية لأن الأمور وفق رأيه «خرجت عن السيطرة ووصلت لمن يصعب التفاهم معهم».
أدرك “أبو زكريا” ما يعيه كلامه جيداً. ومنذ ذلك الوقت يعيش هو وزوجته في سجن كبير للاجئين في بلد مجاور يقال له “مخيم الزعتري“.