العجز وثقافة الإنكار- أيهم محمود
تأجيل الأزمات الحادة عبر إنكارها.. تجميع الانفجارات الصغيرة في انفجارٍ مدمرٍ وحيد
سناك سوري- أيهم محمود
عام2011، منزل في ريف حلب على سطحه لافتة تشير إلى أنه مقر محكمة شرعية، تم تداول صوره عبر الانترنت، ليتقدم القسم الذي لم يصدق وجوده مدافعاً: “فوتوشوب!”، كانت هذه الحكاية ومثيلاتها بداية ظهور الحداثة والتطور في مجتمعنا عبر استخدام مفاهيم الإنكار الرقمي بعد زمنٍ طويل ساد فيه الإنكار اللفظي التقليدي القائم على المرويات والمرويات المضادة، هو تطورٌ هام ومميز في تقنيات الإنكار العاطفي الذي يرفض بشكلٍ قاطع الخيبات والصور الحقيقية الصادمة، نقلةٌ حداثية انتشلتنا من عصر الظلمات الكلامية إلى عصر التقنيات الرقمية ذات التقنية العالية لكن العقل المؤسس واحد، هذا العقل الذي تحركه العاطفة القبلية وتؤذيه بشدة صدمات الحقيقة مهما كانت رقيقة.
لم تكن “فوتوشوب”، وهكذا ولدت جبهة النصرة وبعدها داعش من رحم الإنكار ومن رحم العاطفة التي تساهلت مع نمو التطرف في بيئةٍ تعطّل فيها العقل بفعل عوامل تاريخية قديمة وبفعل عوامل ذاتية حديثة تابعت في هذا الاستثمار الناجح: تأجيل الأزمات الحادة عبر إنكارها، تجميع الانفجارات الصغيرة في انفجارٍ مدمرٍ وحيد.
اقرأ أيضاً: العبودية والتحرر الواقعي- أيهم محمود
فَرِحَ من كان على تضاد مع هذه الخيبة الصغيرة والتي ستتالى فيما بعد خيبات متلاحقة لدى الجميع فقد كان صحيحاً – بل أكثر من صحيح- شعار “الشعب السوري واحد” الذي صدحت به حناجر الجميع دون أن تصدقه قلوبهم وعقولهم، تتالت “الفوتوشوبات”من كل الجهات حتى صمت الجميع أمام ثقل الحقائق التي تقلع العين وهذا إنكارٌ صامتٌ آخر لتجنب تحليل ما حدث أمام أعين الجميع ورفض تلقي دروسه التي ستقطع حتماً مسار استمتاعنا العاطفي التاريخي، هذا الاستمتاع، هذا الخمر اللذيذ القاتل، مخدراتنا الرخيصة التي نستهلكها بجرعاتٍ متصاعدة وصولاً إلى الموت الذي يتكرر دوماً في منطقتنا بشكلٍ ممل حتى أصبحت كل أغانينا حزينة بما فيها تلك التي تتحدث عن الحب والزواج، فرحنا حزين لأننا ندرك بذاكرتنا الجمعية القديمة أنه دائماً فرحٌ قصير، فرحٌ يأتي باهتاً بين انفجارين متتاليين.
الإنكار ليس محصوراً بطبقةٍ اجتماعية محددة، ليس مرتبطاً بالمستوى التعليمي، بنوع التحصيل المدرسي أو الجامعي، بنوع المجتمع المحلي: ريفي، مديني، قبلي، ليس مرتبطاً بالفروقات الجندرية أو بمقدار الممارسة السياسية والاجتماعية، تتعدد الفروقات الاجتماعية وتتنوع بينما يبقى الإنكار سلسلةً فولاذية متماسكة تربط بين جميع الفرقاء وتناقضاتهم التي قد تصل في الحالات المتطرفة إلى مرحلة تمني إلغاء الوجود الفيزيائي للآخر.
اقرأ أيضاً: هروب المجتمعات من ضميرها _أيهم محمود
الإنكار هو قلب المشكلة التي يتجنبها الجميع عبر إلقاء مسؤوليتها على الآخر المختلف الذي يتأثر بالمرويات ويتأثر دائماً بالفوتوشوب!، إلقاء المسؤولية دفاعُ إنكارٍ آخر، إنكارٌ عجزنا عن الإحاطة بجوانب مشاكلنا وأسبابها، إنكارٌ عجزنا عن تنظيم حياتنا ووعينا بحيث نستطيع تجاوز مشاكلنا أو على الأقل الاعتراف بفشلنا أمامها لنفسح الطريق لوعيٍ آخر لتحليلها ومحاولة تفكيك استعصاءاتها، يتهم المسؤول الشعب، ويتهم التاجر المستهلك، ويتهم الناس التاجر والمسؤول…، هي حالة هروبٍ جماعية من استحقاق الوعي ومن استحقاق لحظة الحقيقة المرّة، هروبٌ من استحقاق قسوة الحياة على من يريد أن يقضي وقته في الأحلام والتمني، في التعصب للأفكار المريحة على حساب الأسئلة التي تفتح جراحاً عميقة في وعينا الموروث وتدفعنا للتجدد والتغيير.
“الشعب السوري واحد”تبدأ جميع الحلول من هنا عبر فهم هذا الشعار كتعبيرٍ صحيح وكجرحٍ يستحق العلاج ويستحق أولوية التضميد، هو أمر مؤلم وليس شعاراً للاستهلاك السياسي، هو حتمية تقاسم الخيبات وتقاسم الوجع الذي يعيدنا إلى ضميرنا البسيط البدئي قبل ظهور تقنيات الفوتوشوب التاريخي ومن بعدها تقنيات الفوتوشوب الحديث.
اقرأ أيضاً: الغضب الإيجابي_ أيهم محمود