الرفض بصيغة القبول – ناجي سعيد

الرفض والقبول لا يخضع للمنطق الواعي.. إنه نابعٌ من منطق “لاوعي” طفولي
ناجي سعيد – سناك سوري
كيف يكون الرفض بصيغة القبول؟ أو القبول بصيغة الرفض؟ تذكّرت مقولة سمعتها من صديق (ذكوريّ التفكير): “يتمنّعن وهنّ راغبات، وكانت الجملة ردّة فعل على فتاة صدّته عندما كان “يُعاكسها”، وبغضّ النظر عن نرجسيته التي ترفض رفضِه فهو “الدونجوان” بنظر نفسه.
وبغض النظر عن مصدر هذه المقولة إلا أنها أصبحت مضرب مثل، وتُقال عن أيّ إمرأة ترفض مجامعة زوجها.
ولأنّ مجتمعنا لا يخلو من الذكوريّة في التفكير في قضايا عديدة، فقد تعامل سامعوا هذه الجملة وكأنها حديثٌ مُنزل!! هل يجوز تعميم الجملة على أنّها قاعدة ثابتة؟ بإعتقادي الساذج، لا أظنّ أنّ الله أرسل أنبياءاً لتعليم الناس العبادة فقط، لا بل كان الثَقلُ فوق كاهل الرُسُل لتعليم الناس إدارة العلاقات فيما بينهم، فمن لا يعرف وصيّة يسوع المسيح نبيّ الله: “أحبوا بعضُكم بعضاً . كما أنا أحبَبتُكم” (يوحنا ١٥ : ١٢)، ولربط إيمانهم بنبوّته بالحبّ فيما بينهم، أشار إلى ذلك بقوله: “إذا أحبّ بعضُكُم بعضاً عَرَف الناس جميعاً أنكُم تلاميذي ” ( يوحنا ١٣ : ٣٤ ). وهناك حديثٌ مُتّفق عليه عن الرسول أنّه قال في الأنصار:” لا يُحبّهُم إلاّ مؤمنٌ، ولا يبغضُهم إلاّ منافقٌ، من أحبّهُم أحبّهُ الله، ومن أبغضَهم أبغضَه الله”.
اقرأ أيضاً: النرجسية.. حين تصل الأنا إلى حالة مرض- ناجي سعيد
ولو اعتبرنا هنا أنّ مصادر التربية للإنسان تقتصر على الدين والعائلة، الدين مُثبت بالأحاديث المذكورة عن دعوته الصريحة للناس بأن يُحبّ بعضُهم بعضًا، والعائلة هي البيئة الحاضنة التي تُنمّي وتغذّي مشاعر الحبّ داخل كلّ إنسان، فطوبى للّذين لم ينعموا بالحبّ في حضن العائلة ولا زالوا محافظين على إنسانيّتهم، ولم يرتكبوا جرائم. نعم قد يصل فقدان حضن الحبّ العائلي والديني بالمرء إلى إرتكاب جريمة، والشيء بالشيء يُذكر، من الطبيعي أنّ تستقطب الحركات الإرهابية في العالم، أشخاصًا فاقدي حنان العائلة، ويمكنهم اختبار أي شخص ليكون “مشروع إرهابي” بأن يُطلب إليه بذبح دجاجة فلا يرفّ له جفنًا لينجح في إختبار أن يكون إرهابيًّا.
لستُ أبالغ، فمن المعروف أن أي قاتل لو نظر مباشرةً إلى عينيّ الضحية لما تجرّأ وقتلها، والرفض والقبول هما مجرّد سلوكان، لم يعد لهما علاقة بإرادة الشخص الرافض والقابل. والسبب إنسلاخ الأنا عن العالم الخارجي وتقوقعها في بئرٍ سحيق، ألم يقل الإمام عليّ: “وَتَحْسَبُ أنَّكَ جُرْمٌ صَغِيرٌ،، وفيك إنطَوَى العالمُ الأكبر”َ
وجليّ لمن يقرأ هذا البيت من الشعر بأن الإنسان هو جِرمُ ( بكسر الجيم ومعناها الجسد واللون والصوت) صغير لكنّ داخله يحتوي العالم بأجمعه، ولو كان مجازيًا هذا التعبير فهو دعوة للإنفتاح على الآخر والخارج، وعدم الإنزواء في قعر النفس، فيصبح المرء سجين ذاته.
وما دخل النفس والجسد بمفهومي الرفض والقبول المطروحين هنا؟ سأعطي مثلاُ: هل تعمل أي آلة يشتريها الإنسان لو استخدمها بشكلٍ خاطئ؟ ألا نقرأ “الكتالوج” المرفق بالقطعة التي نشتريها لنتبع توجيهات التشغيل؟ والسؤال الذي لا يخطر على بال أي أحد: من يقرأ “كتالوج” الإنسان؟ وهل هناك كتالوج فعلاً للإنسان؟ أين هو؟ من يعرفه؟ المشكلة بهذا الكتالوج، أنّه في عقل وقلب الإنسان، لكنّ تاريخ صنعه يكون في مرحلة تشكيل اللاوعي عنده وفي مرحلة الطفولة. والمعلومة التي عرفتها في الجامعة، وذكرتها الدكتورة لنا وقتها، بأن العمر صفر إلى سنتين هي مرحلة أساسية من عمر الطفل، يُخزّن اللاوعي عنده، كُلّ ما يسمعه ويشاهده ويحسّه، يترجمه مفردات سلوكية لفظية وغير لفظية في باقي عمره.
اقرأ أيضاً : التغريد بعيداً عن منطق التربية ناجي سعيد
وبالنسبة لي وجدتُ حلاً لمعضُلة شغلت بالي، الرفض والقبول الذي لا يخضع للمنطق الواعي، نابعٌ من منطق “لاوعي” طفولي، ساهم في صنعه الأهل والمجتمع، ومع العلم بأن التكنولوجيا لا دخل لها في مفهومي الرفض والقبول والوعي واللاوعي، لكنّي قرأت في مقالة علمية بأن الموجات والإشعاعات التي تصدر عن الأجهزة التكنولوجية (التلفاز، الكمبيوتر، الهاتف) تؤثّر على دماغ الإنسان والطفل تحديدًا، فتجعله لا يسمع أحدًا من حوله، وإن سمع فتكون ردّة فعله الأولى هي الرفض.
ليست الأجهزة التكنولوجية المُصنّعة من قِبل الإنسان سوى تقليد للكائنات الحيّة فالطائرة تقليد للعصفور. والسفينة والغوّاصة تقليدًا للأسماك ولا أودّ تشبيه الإنسان بالرجل الآلي، بل التعقيد هو أنهم يحاولون بالهواتف الذكية مثلاً، أن “يستشعروا” ذكاء وحساسية الإنسان. ترتفع إمكانية القدرة على الكذب، لكن الرفض لا يمكن إخفاؤه، فالبلوك واضح للمرفوض.
اقرأ أيضاً: كيف يخطئ الإنسان استخدام مشاعره؟ ناجي سعيد