احتجاز الجانحين في ظروف غير ملائمة.. شرطة الأطفال تنتظر قرار التفعيل
لا طيارة من هون ولا كف من هنيك... الأطفال الجانحون يحتاجون معاملة خاصة
كان عمر “عبد المجيد” 12 عاماً عندما تم توقيفه في أحد المخافر باللاذقية بتهمة السرقة. وقد أمضى في سجن الإصلاحية 3 أشهر قبل أن يخلي القاضي سبيله نظراً لبراءته من التهم الموجهة له،.لكنه اتُهِم مرة أخرى بالسرقة بعد عامين إلا أن القاضي أطلق سراحه مجدداً بعدما تبين أن الاعترافات ضده غير صحيحة.وقد أدلى بها طفل آخر قام بالسرقة فعلياً، إلا أنه في المرتين صادف معاملةً قاسية وكلمات نابية وعنفاً لفظياً..
سناك سوري – تحقيق مازن عاقل
يقول “عبد المجيد” خلال لقاء أجراه معدوا التحقيق معه :«تعرضت للأذى النفسي والعنف الجسدي خلال مرتي التوقيف. لم يكن معي سند أو محامي يدافع عني»، ويضيف:« لست مجرماً ولا سارقاً. كل مافي الأمر أن ظروفنا تغيرت ولم نعد عائلة ميسورة، فقد نزحنا من خان العسل في حلب حيث كنا نعيش فيها حياة جيدة لا فقر ولا معاناة فيها،.فوالدي كان يعمل ويهتم بدراستنا ونملك منزلاً وأراضٍ. لكنه توفي وأنا في السابعة من عمري، وبعد الحرب اضطررت مع والدتي وأخوتي الأربعة لمغادرة منطقتنا».
نمت وعائلتي على الأرض في العراء 6 أشهر كاملة – الطفل عبد المجيد
عاش هذا الشاب أياماً قاسية قبل أن يبلغ سن 18، فقد نزح إلى 4 مناطق في سوريا كان من بينها قدسيا.التي استقر فيها ضمن دكان حولته عائلته إلى مبيت لها قبل أن تضطر لمغادرة المنطقة نتيجة توتر الأوضاع الأمنية فيها. ثم انتقل إلى اللاذقية التي نام فيها مع عائلته 6 أشهر بالعراء قرب مسبح الشعب في حي الرمل الجنوبي. يقول: «كانت أمي تفرش الأرض لي ولإخوتي الأربعة وتسهر علينا، دون سقف يحمينا، إلى أن استطعنا تأمين منزل بالإيجار».
ويختم “عبد المجيد” حديثه بالقول:«إن.كل ماصادفته من ألم في نزوحي ومعيشتي كان أهون علي من أيام التوقيف والمعاناة التي رافقته خصوصاً خلال التحقيقات».
اقرأ أيضاً: اللاذقية: إصلاحية الأحداث.. ضرب و تعنيف ولعب شدة.. أطفال يروون قصصهم
عبد المجيد ليس استثناءً
قصة هذا الشاب ليست استثناءً فهناك الكثير من الأحداث الذين يتم احتجازهم أو التحقيق معهم بناءً على شبهات تسببت بها ظروفهم وحياتهم شبه المشردة. والتي قد تصادف أن تكون بالقرب من بناء أو متجر تعرض للسرقة، وبالتالي يتحولون للمشتبه به الأول ويتم استدعاؤهم والتحقيق معهم لكن الظروف التي يخضعون لها.خلال فترة التحقيق كثيراً ما كان فيها أساليب غير انسانية وإذا كانت إنسانية فهي لا تراعي خصوصية هذه الشريحة العمرية (أطفال). بحسب الناشط “رامي فيتالي”.
يقول “فيتالي” المهتم بشؤون الأطفال المشردين والذي يتابع قضاياهم وقصص توقيفهم بمن فيهم “عبد الحميد”.:«لا يجوز تعامل الجهات المعنية بإنفاذ القانون مع الأطفال كمجرمين أو أن لديهم قضية ويجب الانتهاء منها بسرعة.عبر إثبات التهم عليهم، بل من الضروري النظر في عمرهم وظروفهم».
ويضيف:«جاء توقيف عبد المجيد أول مرة بعد أن اتهمه أحد الاطفال المقبوض عليهم بتهم سرقة بأنه شاركه في بعضها. وهذا الطفل كان قد ارتكب بالفعل بعض السرقات، وبالتالي فإن اتّهامه بها وتوقيفه على إثرها صحيحة. ومع ذلك يمكن اعتباره ضحيةً بالنّظر إلى ظروفه، فهو نازح نتيجة الحرب، يتيم الأم. ولديه إصابات متعددة في جسده نتيجة قذيفة تعرض لها. كما أن والده يعنفه بقسوة فيضطر للهرب منه، ويعيش في الشوارع ويلجأ للسرقة لتأمين الطعام والمأوى. أي للحصول على حقوقه الأصيلة التي من واجب المجتمع تأمينه لها باعتباره طفلاً. واللاّفت أنّه بعدما تم إيواؤه في الإصلاحية وتمتّع بالأمان فيها كان مستعداً للاعتراف بصدق بكل.ما ارتكبه من أفعال والتراجع عن اتهامه الكاذب لعبد المجيد».
يتحدث “فيتالي” بحرقة شديدة عن الطفل الذي اعترف على “عبد المجيد” ظلماً:«.كان من الممكن تحاشي العنف والظلم الذي تعرض لهما وإرجاع نسبة أكبر من المسروقات لأصحابها وإنهاء التحقيق بوقت أقل.، لو أن الشرطة تحدثت معه بهدوء وبطريقة محببة مع طمأنته بأن كل ما سيجري له هو توقيف في الإصلاحية.التي هي دار رعاية، ومحاولة إيقاعه بالكلام بأسئلة ذكية. بالإضافة لذلك كان من الممكن تحاشي كل السرقات لو أنّه سبق وحصل على الرعاية والأمان في المقام الأوّل».
في كثير من الحالات يتم وضع الأطفال الجانحين مع مجرمين بالغين في نفس المكان وهم يؤثرون سلبياً عليهم ويحفزونهم على الجريمة – الناشط رامي فيتالي
اللافت في هذه القضية أن “عبد المجيد” كان قد اعترف على نفسه خلال التحقيقات بالمخفر، وادعى أنه ارتكب جرائم.لم يقترفها نهائياً، وهو ما يطرح سؤال جوهرياً حول الأسباب التي دفعته للإدلاء باعترافات من هذه النوع يتساءل “فيتالي”. ويتابع منتقداً ظروف التوقيف للأطفال في معظم المخافر والتي يتم فيها بكثير من الأحيان.جَمع الأطفال أثناء التحقيق مع مجرمين ولصوص كبار في السن بنفس المكان، بينما هؤلاء البالغون يتفاخرون أمامهم بسرقاتهم وإجرامهم. وهو أمر ينعكس سلباً على الأطفال المرتكبين لسلوكيات خاطئة ويحفز لديهم دوافع للتقليد مثلاً. وهذا يَحول دون تحقيق يحقق الأمان في المجتمع والذي هو غاية القوانين والقضاء والشرطة.
القوانين تحمي الطفل… لكن الواقع لا يحميه
لا تفتقر بلدنا لتشريعات وقوانين تحمي “الأحداث الجانحين”، تقول المحامية “رولا رجب” العضوة الناشطة في جمعية رعاية المساجين”.إن سوريا سبقت معظم الدول العربية في سنّ قوانين متعلقة بالأطفال، ولكنها لم تجد طريقها للتطبيق، وأهمّ ما نصّت عليه القوانين عدم تسجيل الأحكام الصادرة في السجل العدلي للأحداث.، تشكيل غرفة الأحداث في محكمة النقض، تخصيص شرطة للأحداث في كل محافظة. ورغم نص المادة 57 من قانون الأحداث الجانحين على تشكيل شرطة الأحداث، إلا أن هذا الإجراء لم يتم حتى اليوم.
اقرأ أيضاً: اللاذقية: أطفال تعرضوا للضرب في قسم الشرطة.. الأحداث ظلم في المجتمع والعقاب
لكن القفزة النوعية من ناحية البيئة القانونية تتمثل في قانون حقول الطفل رقم (21) لعام 2021. حيث نصّت المادة (51) منه أنّ العدالة الإصلاحية للطفل تقوم على عدد من المبادئ الهامة جداً:
إلا أن هذه البنود لم يتم تطبيقها كاملة إلى الآن، فمثلا تكتفي وزارة الداخلية حالياً بوجود أقسام للأحداث في إدارة الاتجار بالأشخاص. وفي كل فرع أمن جنائي بدون وجود أي تأهيل خاص للعناصر الذين يتعاملون معهم. الإجراء الوحيد الخاص بهم والمطبق حالياً هو الاتصال بولي الحدث خلال 24 ساعة من توقيفه لإعلام ذويه عن مكانه وأنه موقوف. وإلى الآن لم يتم أي استطلاع رأي لوزارتي الشؤون والعدل لوضع هذه البنود موضع التنفيذ، بحسب “رجب”.
كما أن استحداث شرطة الأحداث مازال قيد الدراسة، فالشروط الواجب توافرها في عناصر هذه الشرطة كثيرة.وخصوصاً أننا نتعامل غالباً مع ضحايا مجتمعية وأسرية وليس مع مجرد مجرم. تقول “رجب” إن المشكلة حالياً تتعلق بأنه تم تفويض كل من وزارة الداخلية من جهة، بموجب قانون الأحداث، ووزارة الشؤون الاجتماعية من جهة أخرى، بموجب قانون.حماية الطفل، لتشكيل شرطة الأحداث يصعب المهمة، كون الجهتين تعملان بنظامين مختلفين، إذ.توجد ضابطة في وزارة الشؤون تتولى مراقبة التسول، إلا أن نظام الشرطة وتبعيتها لوزارة الداخلية يجعل رقابة وزارة الشؤون على تصرفاتها من الصعوبة بمكان.
يجب فرز مجموعة من الضباط وعناصر الشرطة للتعامل مع الأحداث وإخضاعهم لدورات مكثفة مع خبرا نفسيين واجتماعيين – المحامية رولا رجب
وتقترح “رجب” البدء بالعمل على البنود الخاصة للأطفال عن طريق فرز مجموعة من الضباط وعناصر الشرطة وإخضاعهم لدورات خاصة.ومكثفة مع خبراء اجتماعيين ونفسيين لدراسة علم سلوك الطفل والعلاج المعرفي السلوكي.وهو أمر غير متوفر حالياً، إذ تقتصر جلسات العلاج المعرفي السلوكي على بعض المراكز الخاصة حديثة النشء ولا يوجد في لوائح وزارة الداخلية ما يشعر بإمكانية خضوع الضباط لهذا التدريب.
شرطة الأطفال أقرب لهم من عوائلهم
يعد عنصر الشرطة أهم شخص يتعامل مع الأطفال الجانحين والأكثر احتكاكاً معهم سواء خلال فترة التوقيف أو التحقيق أو الاحتجاز …إلخ فهو يصبح بديل عائلتهم بهذا العمر فإما يكون مثل أب يسيء تربية أبنائه ويساهم في فشلهم وسلوكهم طريقاً إجرامياً أو يكون أباً ناجحاً يحسن إدارة أبنائه والتواصل معهم فيساعدهم في الخلاص من السلوكيات السيئة.
عدد كبير من اليافعين الذين أعيدوا إلى مركز الأحداث كان تعاطي المجتمع معهم سبباً في رجوعهم – متطوع في جمعية تتعامل مع الجانحين
يقول متطوع في جمعية مدنية تعمل مع الأحداث باللاذقية منذ ثلاث سنوات أغلب جلساتنا مع الأحداث كان هدفها تحفيزهم. على التفكير بالأسباب التي أدّت لوصولهم إلى الإصلاحية، وما الذي بإمكانهم فعله للتخفيف من الآثار السلبية لما ندعوه بـ “الوصمة”. والتي كانت تؤثر عليهم وتجبرهم للعودة إلى نفس المجال، كون المجتمع ينظر لهم بشكل سلبي. وقد لاحظنا خلال الجلسات أن أحد أبرز محفزات الجريمة لدى الأطفال هو “أزمة التواصل” لديهم خصوصاً مع ذويهم.
اقرأ أيضاً: ماهية شرطة الأحداث وكيف يجب أن تتعامل وفق القوانين
المتطوع الذي يفضل عدم الكشف عن اسمه يرى أن مشكلة التواصل هذه منعت اليافعين من إخبار أهاليهم حول احتياجاتهم أو أفكارهم. ما خلق أزمة احتواء لديهم وفراغاً بينهم وبين ذويهم وعندما أُغلقت كل طرق التواصل سواء مع الأهل أو الأصدقاء أو حتّى المدرسة. كان الشارع هو الملجأ الوحيد لهم.
يضرب المتطوع مثلاً ليافع اختلف مع أهله ليلاً ما أدى لخروجه من المنزل في وقت متأخر، وأثناء وقوفه مع عدد من شباب الحيّ.في الشارع تم إلقاء القبض على الجميع بتهمة “التعاطي”، وتم تحويل اليافع إلى الإصلاحية. تبيّن لاحقاً أنّه لم يكن على علاقة بالأمر ولم يتعاطَ سابقاً كما أنّه لم يكن على علم بما تحتويه السيجارة التّي قدّمها له أحد المتواجدين في تلك الليلة. وحسب تقديرنا كعاملين في هذا المجال فإنه لو كان هناك شخصّ أو جهّة مؤهلة للتعامل مع هذا اليافع بعد إلقاء القبض.عليه في تلك الليلة لما وصل إلى مركز الأحداث. فقد كان بحاجة من يحسن التواصل معه ويكون بالنسبة له بديلاً عن والده في تلك اللحظة.
بعد صدور قانون حقوق الطفل في سورية بتاريخ 15 تموز عام 2021 والذي ينص في المادة (51) منه على ضرورة وجود شرطة خاصة بالأطفال تضم عناصر مؤهلة ومدربة لهذا الغرض. تم تشكيل “اللجنة الوطنية لحقوق الطفل” وتضم ممثلاً عن وزارة الداخلية بحسب ما نص عليه القانون، لكن لم يتم تشكيل هذه الشرطة بعد، ولم يتم نشر أية تعليمات أو قوانين خاصّة بها
البعد النفسي لوجود شرطة متخصصة
تقول المعالجة النفسية “ليلى الشريف” إن الأطفال الجانحين يحتاجون لمعاملة تختلف عن عالم الكبار وهذا يتطلب تدريب فريق عمل كامل.يبدأ من الشرطة التي تتولى القبض عليه مروراً بالقضاة وصولاً الى الرعاية المتخصصة في إعادة تأهيل الطفل وتوجيهه إما للدراسة أو لتعلم مهنة ما.
إعادة الطفل الجانح إلى نفس البيئة التي دخل الإصلاحية منها لا يجدي نفعاً بحسب الشريف.التي ترى أن جنوح الطفل نتيجة للبيئة الأسرية والاجتماعية وبالتالي فإن إعادته إلى نفس البيئة أمر في غاية الخطورة. لذلك لا بد من إيجاد مؤسسات ترعاه وتتكفل به الى حين انتهاء دراسته أو تعلمه مهنة معينة.وذلك كي تتمكن الدولة من ضبط انحراف الأطفال الجانحين عندما يكبرون أيضاً.
تقول “الشريف” في حديثها إن فقدان الطفل للإحساس بالأمان وتشوه الأنا الأعلى نتيجة البيئة الأسرية المفككة وغياب التوازن التربوي.يجعله غير مسؤول عن جنوحه وانحرافه لأن إدراكه وسلوكه يأتي كرد فعل على البيئة المفككة والنقص في تلبية حاجات نمائه الطبيعية. وهذا سبب هام لتدريب شرطة مختصة بالطفل تدرك هذه المعلومات كي تساهم مع كامل فريق العمل الذي ذكرت في إعادة توازنه واندماجه بشكل صحي نفسيا وأخلاقيا بالمجتمع.
ثمة حاجة ملحة لتفعيل هذه الرعاية الأن في ظل الحرب التي مرت بها سوريه وأثرت شديد الأثر في أطفالنا وساهمت بازدياد عدد الأسر المفككة والمشردة والمحتاجة للمال بعد نزوحها وفقدان أموالها ومنازلها ومصادر دخلها- الاختصاصية النفسية – د.”ليلى الشريف”
احتجاز الجانحين في ظروف غير صحية.. شرطة الأطفال تنتظر قرار التفعيل
في سورية اليوم حلقات عديدة مفعلّة في مجال التعاطي مع الأطفال من ناحية العدالة الإصلاحية. إذ توجد قوانين خاصّة، وقضاء مختص، ومراكز توقيف إصلاحية خاصّة. لكن تبقى الحلقة الأهم في هذه السلسلة مفقودة تماماً، وهي وجود شرطة خاصّة مؤهّلة للتعامل مع الأطفال توقيفاً وتحقيقاً مع أنّ القوانين المتلاحقة نصّت على ضرورة استحداثها. نجد أنّ سورية كانت سبّاقة فيما يتعلق بالقوانين الخاصّة بالأطفال وحقوقهم، لكن معظم الدول العربية اليوم قد سبقت سورية في هذا المجال واستحدثت شرطة خاصّة بالأطفال.وذلك من خلال إدراك سلطاتها لأهمية هذا الموضوع على طريق إصلاح الأطفال الجانحين والمعرضين للجنوح وتأهيلهم.فيكونون قادرين على الاندماج بشكل إيجابي في المجتمع وإدراكها أيضاً أنّ هذا سيحقق أمناً أفضل للمجتمع بكامله مستقبلاً.