أكيتو بريخو… العيد الذي يحتاجه السوريون لربط وجدانهم الجمعي بتاريخهم المشترك
في هذا العيد شرِب أجدادنا البيرة وأقاموا طقوس "منع طغيان السلطة"
تشهد وسائل التواصل الاجتماعي تبادلاً محموماً للمعايدات بمناسبة عيد “أكيتو بريخو”، رأس السنة البابلية والآشورية والكلدانية والسورية. وهي في مجملها “رؤوس سنوات” تنبع من حاجة المجموعات الإثنية والقومية والدينية إلى وضع موطيء قدم لها في أعماق التاريخ.
سناك سوري-حسان يونس
مهرجان الأكيتو Akitu كان احتفالاً في بلاد سومر مخصصاً للاحتفاء بالشعير حيث كان يتم الإحتفال به مرتين في السنة. الأولى في شهر/أرخ تيشريتوم وهو موعد بذر الشعير ومرة بحصاد الشعير في شهر / أرخ نيسانو.
وفي زمن الدولة البابلية الأولى وانسجاماً مع مركزية الدولة الناشئة تم دمج العيدان في عيد واحد، أطلق عليه اسم “ريش شاتيم” أي رأس السنة. وكان يُقام في رأس كل سنة بابلية في ﺍﻷﻭﻝ ﻣﻦ ﻧﻴﺴﺎﻥ وفق التقويم البابلي ﻣﻦ ﻛﻞ ﻋﺎﻡ (يوافق 21 آذار وفق التقويم الغريغوري المعمول به حاليا). ولمدة 12 يوماً بمشاركة كافة فئات المجتمع.
كان محصول الشعير في بلاد سومر محصولاً قومياً وكانت الجعة (البيرة) الناشئة عن الشعير مشروباً قومياً ومقدساً تتناوله كافة طبقات المجتمع. وبدأ تناوله بشكل جماعي باستعمال القصبات والأوعية الكبيرة قبل الانتقال إلى الكؤوس الفردية (الكاسة). التي لا تزال تحمل حتى اليوم اسم الآلهة السومرية المسؤولة عن الخمور والتخمير “نين-كاسي”.
اقرأ أيضاً: جبران ومريود.. وتجويع السوريين- حسان يونس
البيرة في الاحتفالات الدينية
كما أن تناول البيرة عند الاحتفالات الدينية السومربة ومن ثم البابلية لا يزال ساري المفعول حتى اليوم من خلال طقوس “المناولة”. المتبعة عند طوائف مختلفة.
بالعودة إلى عيد اكيتو و”رؤوس السنوات” المتفرعة عنه، ورّث الآشوريون هذا العيد بكامل طقوسه ودلالاته مع انتقال مركز القوة في بلاد الرافدين إلى آشور. شمال العراق خلال القرن الثالث عشر ق.م إلا أنهم أجروا تحويراً يتعلق بالاحتفاء بإلاههم القومي آشور. بديلاً عن الإله البابلي مردوخ أو السومري أنليل.
كانت الدولة الآشورية في أطوارها المختلفة ذات سطوة عسكرية ومركزية أكثر من الدولة البابلية السابقة لها ومن الممالك المدن السومرية. لذا فرضت نظاماً موحداً على كامل امتدادها في العراق والشام وآسيا الصغرى وبلاد فارس ومن ضمن هذا النظام الموحد تم تغيير أسماء المدن. واعتماد التغيير الديمغرافي للمرة الأولى في التاريخ وتداول احتفال أكيتو بين شعوب هذه الدولة المترامية الأطراف. وجرى تبني اللغة الآرامية في المراسلات وفي شؤون الحكم.
واستمر هذا النظام الموحد بعد سقوط نينوى 612 ق.م وعودة مركز القوة إلى بابل الكلدانية ومن ثم بعد سقوط بابل وسيطرة الفرس الأخمينيين. على المشرق القديم 534 ق.م.
ﺍﺳﺘﻤﺮ ﻣﻬﺮﺟﺎﻥ ﺃﻛﻴﺘﻮ ﻃﻮﺍﻝ ﺍﻟﻔﺘﺮﺓ ﺍﻟﺴﻠﻮﻗﻴﺔ ﻭﻓﻲ ﻓﺘﺮﺓ ﺍﻹﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﺮﻭﻣﺎﻧﻴﺔ، وفي ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻣﻴﻼﺩﻱ كان ﺍﻹﺣﺘﻔﺎﻝ بالإله الشمسي. (الحجر الأسود النيزكي الحمصي ﺍﻳلا ﺟﺒﻝ) ﻓﻲ ﺣﻤﺺ “ﺇﻣﻴﺴﺎ” شبيهاً باحتفالية الأكيتو وهي الطقوس التي نقلها الإمبراطور ذو الأصل السوري الحمصي ايلا جبل. (ابن جوليا سوميا وكاهن معبد ايلا جبل، ﺣﻜﻢ 222-218 م ) إﻟﻰ ﺭﻭﻣﺎ، فتسببت بنقمة الرومان عليه وقتله برفقة والدته.
لا يزال هذا الإرث ساري المفعول في حياة كثير من الجماعات المنتشرة في إيران والعراق وسوريا من خلال أعياد الربيع (النيروز). التي يحييها الكُرد والفرس والآشوريون وبعض الطوائف الدينية من خلال تناول الخمر في المناسبات الدينية لديها.
ينتحل ﻛﺎﻫﻦ ﺍلمعبد ﺷﺨﺺ ﺍﻹﻟﻪ ﻭﻳﺒﺪﺃ ﻓﻲ ﺗﺠﺮﻳﺪ الملك ﻣﻦ ﻣﺠﻮﻫﺮﺍﺗﻪ ﻭﺻﻮﻟﺠﺎﻧﻪ ﻭتاﺟﻪ ﺛﻢ ﻳﺼﻔﻌﻪ ﺍﻟﻜﻬﻨﺔ ﺑﻘﻮﺓ. حتى يذرف ﺍﻟﺪﻣﻮﻉ ويركع ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺬﺑﺢ
صفع الملك
من اللافت أن طقوس أكيتو تتضمن في اليوم الخامس من المهرجان دخول ﺍﻟﻤﻠﻚ إلى ﺍلمعبد ﺑﺮﻓﻘﺔ ﺍﻟﻜﻬﻨﺔ. حيث ينتحل ﻛﺎﻫﻦ ﺍلمعبد ﺷﺨﺺ ﺍﻹﻟﻪ ﻭﻳﺒﺪﺃ ﻓﻲ ﺗﺠﺮﻳﺪ الملك ﻣﻦ ﻣﺠﻮﻫﺮﺍﺗﻪ ﻭﺻﻮﻟﺠﺎﻧﻪ ﻭتاﺟﻪ ﺛﻢ ﻳﺼﻔﻌﻪ ﺍﻟﻜﻬﻨﺔ ﺑﻘﻮﺓ. حتى يذرف ﺍﻟﺪﻣﻮﻉ ويركع ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺬﺑﺢ ويبدأ اﻟﺼﻼﺓ ﻃﻠﺒﺎً ﻟﻠﻤﻐﻔﺮﺓ ﻣﻦ الإله.
إن هذا الطقس هو محاولة لفرض توازن السلطة ومنع طغيانها ومن المؤسف أن هذا المعنى تضاءل وغادر موروثنا.
ومن اللافت أيضا أن الجماعات المنتشرة خارج جغرافية الإمبراطورية الرومانية كالكُرد والفرس والآشوريون في إيران وشمال العراق. وجنوب شرق تركيا لا تزال تحتفل بالنيروز في الأول من نيسان وفق التقويم البابلي الموافق 21 آذار وفق التقويم الغريغوري المعمول به حاليا.
أما الجماعات المنتشرة ضمن جغرافية الإمبراطورية الرومانية كسكان الساحل السوري فكانوا حتى مطلع الثمانينيات يحتفلون بالنيروز في 4 نيسان. وفق التقويم اليولياني ( تقويم فرضه الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر 44 ق.م وظل سارياً حتى عام 1582 م حيث وضع التقويم الغريغوري الحالي) وهذا العيد يوافق 17 نيسان وفق تقويمنا الحالي.
مناسبة رأس السنة السورية وربطها بتاريخ محدد (6771 عام) إنما تعود بشكل غير مباشر إلى مهرجان أكيتو. والسوريون يحتاجون مناسبة من هذا النوع، دون اختلاق، لربط وجدانهم الجمعي بتاريخهم المشترك. والوصول إلى هوية تحميهم من طوفان التشتت والاقتتال والتشظي.
ما هو مطلوب اعتماد احتفالات “النيروز-أكيتو” كمناسبة وطنية وإعادة إحيائها في مناطق الساحل السوري بجهد جماعي. يسمح لنا بالتواصل مع ذاكرتنا القديمة والاحتفاء بها وقطاف حبوبها وعصرها وتناول رحيقها في لحظة صلاة وانتماء فارقة.