العنف اللفظي _ ناجي سعيد
للتخفيف من العنف اللفظي لا بُدّ من قبول احتمال بأن عدم تلبية الحاجات وارد فعلاً
سناك سوري- ناجي سعيد
لم أكن قد بلغتُ السادسة عشر حين كنتُ أقضي عطلتي الصيفية كل عام، في مساعدة والدي في “الفرن”. وقد كانت منطقة اللاوعي في دماغي تجمع رصيدها آنذاك، وهذا ما جعل مخزون الذاكرة يتحرّك حين أحاول استخدام مهارة التحليل لسلوكٍ مُجتمعيّ لفظي أو غير لفظي.
وأكثر ما هو مطبوع في ذاكرتي، ولم يغب عن بالي، حين ي/تأتي زبون/ة إلى الفرن وي/تصطحب ابنه ها/ ابنته ها، وما كان يستفزّني حين كان المذكور/ة ي/تتواصل بكلام مليء بالعنف اللفظي، وغالبًا ما كان يفضي هذا العنف اللفظي إلى عنف جسدي يُبرّره الأهل بأنه من ضرورات التربية.
وخطورة العنف اللفظي يكمن في أنه ينمو داخل وخارج الإنسان ليقوّض عملية التواصل اللاعنفي التي تعود بالنفع إيجابًا على الحياة الاجتماعية. فلا يُدرك الأهل بأن مخاطبتَهم لصغارهم/ نّ باستخدام مصطلح “وْلاه” أو “وْلِيه”، يحمل أثرًا سلبيًّا على جيل الطفولة ممّا يجعل أساسات مبنى المستقبل مُهدّد بالانهيار لاحقًا.
اقرأ أيضاً: التربية اللاعنفية _ ناجي سعيد
وبتفصيل الأثر السلبي، فبدايةً أودّ أن أخبركم بأن الحاجّة أم عبدو لم تكن على علمٍ بأنها حين تنادي ابنها محمود، بأن تناقضًا عاطفيًّا يُحدث إرباكًا في دماغه، فمن المُستهدف من هذا العنف اللفظي: الحاجّة أم عبدو إلى ذات نفسها، حين تقول: “تعا يا تقبرني”؟ أم إلى ابنها محمود حين لا يلبّي طلبها فتصرخ: “ولاَ ريتني أقبرك تعااا”. فهذا التناقض في دماغ الطفل، يحدث خلَلاً في التوازن بين العقل والقلب، وهذا التوازن مطلوب أصلاً لبناء تربوي متين.
فأساس هذا البناء، ميزان ذو كفّتين، العقل والقلب، وهذا الميزان سيتعرّض للسقوط حتمًا لو لم يكن هناك طاولة تحمل هذا الميزان. وهذه الطاولة تُشبه التواصل اللاعنفي. وتخيّلوا معي، بأنّ العنف اللفظي هو المسامير التي تُدقّ في أرجل هذه الطاولة لتُنذر بسقوطها. والمعضلة التي يصعُب حلّها وعلاجها، بأن هذه المسامير تبدو وكأنّها صغيرة الحجم، لكنّها تنمو “لا تربويًّا” بداخل الطفل الذي يسمع كلمات هذا العنف اللفظي، حتّى لو لم يكن هو المقصود، وحتى لو كان مقصودًا من باب الدعابة.
في المراجع العلمية، التي اعتمدتها لإعداد دليل عن التواصل اللاعنفي، قسّمت هذه المراجع الإنسان إلى أربعة جوانب: الجانب الجسدي/ الجانب الروحي/ الجانب العقلي/ الجانب الاجتماعي العاطفي. وتبقى المشكلة التي لا يمكن للتربية التحكّم بها لتُحسن إدارتها، هي احتواء الجانب الجسدي الجوانب الثلاثة المتبقّية. فتتداخل عملية نموّ الشخصية، وتتصارع الجوانب ليغلب أحد الجوانب ويفرض نفسه سيّدًا على الشخصية فتتقسّم إلى مراحل: الطفولة، والمراهقة، والشباب والنضوج. وتتميّز كل مرحلة بانعكاس سلوكها على تلبية حاجتها المرحليّة. فنسمع بكاء الطفل الرضيع حين يشعر بالجوع، ونرى المراهق يسارع إلى حلاقة ذقنه بعد أن يرى بأن شعرة طويلة في وجهه.
اقرأ أيضاً: كيف يظهر العنف الأسري وكيف ننهيه _ناجي سعيد
ومن ميلٍ آخر وأعمق، نلمس محاولات لفت النظر في المراحل العمرية كافّةً (باستثناء الرضيع طبعًا) من خلال “العنف اللفظي”. ويستخدم هذا العنف اللفظي حتى مع الجماد. فالطفل يخاطب دمية يغضب منها لسبب ما. والمراهق قد يشتم ويعنّف دراجته الهوائيّة. والناضج قد يعنّف ويلعن سيارته حين يصيب عطلٌ ما مُحرّكها.
العنف بشكلٍ عام هو حالة غير طبيعية، وتسير بعكس طبيعة البشر، وهو ردّ فعل على أي فعل لا يُلبّي حاجة يطلبها الإنسان، ضروريّة كانت أم لا. لذا للتخفيف من هذا العنف اللفظي، لا بُدّ من قبول احتمال بأن عدم تلبية الحاجات وارد فعلاً. ومن لا يستطيع التحكّم بغضبه، وليس بمقدوره الخضوع لبرنامج تدريبي للسيطرة على غضبه، فمن الممكن ممارسة أنشطة تفريغ كالرياضة والقراءة والكتابة وسماع الموسيقى، وهذا مسار طبيعي يُبعد العنف اللفظي، ويمكن السيطرة على الجهاز العصبي، فلا يرتفع الأدرينالين في الدماغ ويسبّب الغضب، كسبب لتكاثر العنف اللفظي.
اقرأ أيضاً: اللاعنف والصفات الواصمة _ناجي سعيد