استعراض الواجب الديني _ ناجي سعيد
كنت في محمصة لبيع البن أبتاع حاجتي من البُنّ الطازج، حين صادفتُ رجلاً أربعينيّاً ربما، يصطحبُ ابنه الذي قاربَ العاشرة من عمره، ويجاهر مفختراً بولده بعبارة « أي ما شاء الله عنه صايم».
سناك سوري _ ناجي سعيد
سألت نفسي هل هذا تفاخر بأيديولوجيّة عقائديّة لا تعنيها حاجات الطفل..وحقوقه؟. حقوقه في النموّ ضمن بيئة تربويّة آمنة. هل يجب أن يصوم الأطفال في هذا العمر؟. هل على الأطفال أداء الواجبات الدينية قبل سن الرشد؟.
يغفل البعض من الناس المُلتزمين بأداء الواجب الديني مسارات أخرى. وخصوصًا في مجال التربية. والمشكلة تكمن في ربط الرعاية التربوية بالواجب الديني!.
فالحديث النبوي: «العلم في الصغر كالنقش في الحجر» كفيل لأن يدفع أيّ أب إلى الحرص على توفير البيئة الآمنة لتشكيل المفاهيم التي تساهم في بناء طفل إنسان. فتحذير النبي واضح من خلال الحديث، أن التربية تُعلّم الطفل، وهذا حين يُنجز، صعب الحصول كالنقش في الحجر. وبالتالي لا يمكن تعديله وتغييره، فتغييره يحتاج إرادة قويّة كما فعل فيلسوف الشكّ واليقين “رينيه ديكارت”.
بدأ “ديكارت” تعليم نفسه بعد أن كبر. واشتهر “بالكوجيتّو/مبدأ”: «أنا أُفكّر إذا أنا موجود». ولم يلتفت أحدٌ آنذاك إلى علاقة “ديكارت” بواجباته الدينيّة! فهذا مسار آخر.
اقرأ أيضاً:الزلزال والدين والعلم – ناجي سعيد
ولا ترتبط ملاحظتي بوجوب الإلتزام بالواجب الديني أو عدمه، لا بل من الضروري برأيي، عدم خلط المسارين. والمقصود بالمسارين، أن الواجب الديني والالتزام به، مساحة خاصّة تعني كلّ شخص على حدة. ومن المعروف بأن المساحة الخاصة، موضعها الذات الإنسانيّة، والذات تُخزّن القيم في القلب.
وعلميًّا يأتي القرار من العقل، بدليل أن المقولة الشعبيّة تجزم: «الله ما شافوه، بالعقل عرفوه» وهنا نؤكّد بأن القيم الإنسانيّة التي تعزّزها الأديان السماوية موضعها قلب الأنسان.
ولكن لا يعني ذلك إغفال “العقلنة”! فالتعقّل أكّد عليه النبي محمّد بحادثة الإعرابيّ الذي توكّل فقط فسُرقت ناقته، فجاء الحديث: «اعقلها وتوكّل».
فنرى مُشكلة الأب الذي تباهى أمام الآخرين بصيام ابنه، أنّه اهتمّ بالتوكّل، ولم يعقُل. نعم فالدرس من الصيام هو اختبار الإرادة دونما إجبار الطفل على ذلك. فلا إكراه في الدين.
فيما يقول “مارتن لوثر كينغ” في كتابه “قوة المحبة” : «راح يروي يسوع قصّة رجل كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع في أيدي اللصوص فعرّوه وانهالوا عليه بالضرب ثمّ مضوا وقد تركوه بين حيّ وميّت. فاتّفق أن أحد الكهنة كان نازلاً، فمرّ من ذلك الطريق، فرآه فمال عنه ومضى. وكذلك مرَّ لاويّ في ذلك المكان فرآه فمال عنه ومضى. ثمّ مرّ به سامريّ مسافر -وهو من شعب غريب عن اليهود ولا تربطه بهم أيّة صلة- فرآه فأشفق عليه ومال إليه فضمّد جراحه ثمّ حمله على مطيّته وجاء به إلى فندق واعتنى بأمره. والسامري كان صالحًا لأنه جعل من الاهتمام بالغير المبدأ الأساسي له في الحياة».
اقرأ أيضاً:إن كبر ابنك لا تخاويه جرب أن تُصادقه – ناجي سعيد
وما لفتني في ذلك، وما وجدته مشابهًا لتفاخر الأبّ بصيام ابنه، هو تعلّقه بمبدأ الإيمان -وهذا جيّد- ولكنّ تعلّقه لم يكن بالإيمان كاملاً. فحصر إيمانه بأداء الواجب الديني، دون إعارة الانتباه لحاجات وحقوق طفله. ففرض الدين على الآخر ليس أمرًا جيّدًا وخاصّةً لو كان الآخر طفلاً لازال في طور النمو.
الهويّة الإنسانيّة تشكل القيم الدينيّة والإجتماعيّة، فالمحبّة حين تمكث في قلب الإنسان يستحيل أن تسمح لصفة سلبية -التمييز والكراهية والحقد مثلاً- أن تحشر نفسها بجانبها. وقد ورد في كتاب “لوثر كينغ” المذكور أن حادثة اصطدام وقعت في جنوب أميركا مع حافلة كانت تقلّ لاعبي كرة سلّة من ذوي البشرة السمراء. فرفض الصليب الأحمر نقلهم إلى مستشفيات المنطقة. كما رفضت المستشفيات نفس المنطقة استقبالهم. وقد مات منهم من كان بحالة طارئة ويحتاج إسعاف فوري إلاّ ان تأخير نقلهم أدّى إلى الوفاة.
أي هويّة إنسانية تتصرّف بطريقة تؤدّي إلى أذى وإلغاء الآخر؟ إنّ هويّة السامري مليئة بمحبّة تجعلها إنسانيّة بامتياز، وهذا لا يؤخّره من أداء فروضه وواجباته الدينيّة، فما هو معروف قبل الصوم والصلاة.. بأنّ الدين معاملة وليس استعراضاً أمام الآخرين.