الرئيسيةفن

محمود درويش.. بين المأْتَم والأمسيات الأخيرة في دمشق

“محمود درويش” أحب دمشق وتزوج منها نشر له “الريس” ورثى “قباني” و”عدوان” و”الماغوط” وسكنت داره مرآة دمشقية

سناك سوري – عمرو مجدح 

«كلما سئلتُ: هل ما زال الشعر ممكناً وضرورياً جئت إلى “سوريا” لأعثر على الجواب»، بهذه الكلمات استهل الشاعر الفلسطيني الراحل “محمود درويش” أمسيته الشعرية في صالة “الجلاء” الرياضية بمدينة “دمشق” العام ٢٠٠٤، ليعود بعدها بعام إلى أقدم عاصمة في التاريخ ويقدم أمسيته الأخيرة قائلاً: «في الشام لا أعرف كيف أبدأ وكيف أنهي ولكن أفضل ما أمرن به قلبي على الكلام هو التغني باسم “دمشق”».

كان لـ”درويش” علاقة خاصة بدمشق فكما يقول: «في الشام، أَعرفُ مَنْ أنا وسط الزحام»، تغنى كثيراً باسمها في أشعاره فكتب “بطاقة إلى دمشق” ، “طوق الحمامة الدمشقي” ، “في الشام شام” وغيرها وعندما قرر أن يتزوج اختار الكاتبة والشاعرة السورية “رنا قباني” ابنة شقيق “نزار قباني” ، وحدث كما قال في حوار مع مجلة “الدوحة” عام 1985: «شاعر وشاعرة لا يستطيعان العيش معاً»!، وفي رحيل “قباني” رثاه قائلاً: «قلت له حين متنا معاً، وعلى حدة: أنت في حاجة لهواء دمشق!».

تتذكر الصحفية “سها كامل” سنتها الثانية الجامعية بالعام ٢٠٠٤، وبيدها ديوان شعري لـ”محمود درويش” الذي قطع الطريق معها من “دمشق” إلى مدينة “اللاذقية” في الساحل السوري حيث كانت أمسيته الشعرية المنتظرة على “مدرج الباسل” بجامعة “تشرين” تقول: «”محمود درويش” مرتبط لدى جيلي بالقضية الفلسطينية وبصوت مارسيل خليفة مازلت أتذكر أشعاره المكتوبة على حيطان المدرسة ومسابقات الشعر بالرحلات التي لا تخلو من كلماته».

وعن الأمسية تقول لـ”سناك سوري”: «أعتقد أن كل “اللاذقية” كانت يومها على المدرج “الناس فوق بعضها” وعلى الأرض واقفين مقعدي كان بآخر المدرج ورغم سوء التنظيم والصوت الرديء كان مجرد حضورنا أمام “درويش” شيء آخر وحدث مهم بالنسبة لنا كان الجمهور يسبقه في ترديد الأشعار التي يحفظها عن ظهر غيب وكان “درويش” في كل مرة يطلب الهدوء من الحضور المتحمس».

كانت الأمسية الأخيرة والوداعية لـ”درويش” في “دمشق” العام ٢٠٠٥ مثالاً حقيقياً على حب السوريين، أقيمت في قاعة مكتبة “الأسد” واحتشد مئات من محبي الشاعر وضعف العدد كانوا متواجدين في باحة المكتبة يشاهدون الأمسية من خلال شاشات وضعت في الصالة الخارجية.

يحكي الصحفي “بشير الطيلوني” لـ”سناك سوري” عن تلك الذكرى التي تزامن فيها توقيع ديوان “كزهر اللوز أو أبعد”، مع الأمسية الشعرية التي لم يستطع حضورها بسبب امتلاء القاعة بمحبي الشاعر وسط احتفاء شعبي واهتمام كبير بزيارته من الجهات الرسمية الثقافية.

لم يثنِ ذلك من عزيمة الصحفي الناشئ حينها وهو في سنته الدراسية الثانية بكلية الإعلام جامعة “دمشق” يتذكر تسلله لفندق الشيرتون وهو يرى “محمود درويش” ببدلته البيضاء جالساً في مدخله ويقول: «اقتربت منه وسلمت عليه ورد السلام وعرفت بنفسي كان شخصاً في قمة التواضع كنت ألاحق تحركاته في المكان وأحاول بإلحاح إقناعه بإجراء حوار ثم استأذن للذهاب قائلاً:« اتصل بي غداً لنحدد الموعد حينها اعتقدت أنه يصرفني بطريقة مهذبة».

اقرأ أيضاً: من هي الكاتبة السورية التي تزوجت محمود درويش وباتريك سيل؟

عاودت الإتصال في اليوم التالي برقم الفندق وذكرته بنفسي قال لي: «سأعطيك خمسة دقائق من وقتي” وفي الواقع استمر الحوار ساعة ونصف وبنهايته قال لي: «أنا مستعد أن أستمر في الحديث إلى أن تنتهي أسئلتك” في الحوار تكلمنا وتناقشنا في عدة أمور منها المرأة والشعر وجائزة نوبل كان أول سؤال حول اتهامه بتغير نفسه الشعري من الثورية إلى الأممية بحثاً عن نوبل قال بلهجته الفلسطينية” لا تبلشيش بالاتهامات مناش بمحكمة” كنت حينها قد قرأت كل مؤلفات “درويش” وكنت أشعر أنني أعرفه أكثر مما يعرف نفسه وفرحت بعد الحوار عندما قال لي ذات الجملة».

وتابع: «قدم لي “درويش” فرصة ثمينة إيماناً منه بالشباب واستغرب الكثيرون كيف حصلت على هذا الحوار واعتقدوا أن هناك واسطة ما. أعتبر هذا اللقاء أجمل حوار أجريه وكان الحوار الصحفي المكتوب الوحيد أثناء زيارته كان بحدود صفحتين ونصف وقد استعان صناع مسلسل “في حضرة الغياب” الذي يتناول سيرة “محمود درويش” بالتسجيل الصوتي الذي أمتلكه».

درويش أمام مرآته الدمشقية

كان المحيطون بـ”درويش” من الأصدقاء أيضاً أدباء سوريون منهم “ممدوح عدوان” و”الماغوط” و”سليم بركات” وناشر كتبه الذي تبنى حرفه الصحفي ” رياض الريس” حتى المرآة التي تسكن دار “درويش” والتي كان ينظر من خلالها إلى نفسه كانت مرآة دمشقية مطعمة بالصدف وانتقلت معه في تغريباته المستمرة من بيت إلى آخر ومن “باريس” إلى “عمان”.

في أربعين الشاعر “ممدوح عدوان” بدمشق ٢٠٠٥ رثاه “درويش” قائلاً: «ممدوح، يا صديقي، لماذا كما يفعل الطرخون خانك وخاننا قلبك؟ لماذا لم تعلم كم نحبك؟ لماذا تمضي وتتركني ناقصاً؟ لماذا… لماذا؟».

وبعدها بعام تجدد اللقاء مع الموت في حفل تأبين الأديبين الدكتور “عبدالسلام العجيلي” والشاعر “محمد الماغوط” في دار الأسد للثقافة والفنون بـ”دمشق” تذكر “درويش” حضور “الماغوط” تأبين “عدوان” في نفس المكان قبل عام قائلاً: «في أمسية غياب كهذه وفي المكان هذا كنا في العام الماضي ننثر ورد الحب على اسم الراحل “ممدوح عدوان” لم يحضر “محمد الماغوط” كاملاً لعجز عكازه عن إسناد جبل لكنه حضر صورة شاحبة وصوتاً متهدجاً ليذكرنا بأن للوداع بقية».

أوجع الغياب وتساقُط الأصدقاء “درويش” وكان موعده مع الموت بعد عامين في ٢٠٠٨ وأقيم له حفل تأبين في “دمشق” حيث كان يقف ويرثي أصدقاء الحرف وكان صدى صوته يطوف المكان مردداً:

“لا أَعودُ من الشام
حياً
ولا ميتاً
بل سحاباً
يخفِّفُ عبءَ الفراشة
عن روحِيَ الشاردةْ”.

اقرأ أيضاً: هل خان سليم بركات محمود درويش بكشفه هذا السر ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى