متعة البُخل.. لو كان الجاحظ بيينا لقدم اعتذاره لبخلاء بلادنا
بخلاء قريتنا على دور المازوت - شاهر جوهر
سناك سوري- شاهر جوهر
ما أعرفه أنه في هكذا قرية ينبغي التلهي بالبخل على مزاولة عمل آخر، حتى نشعر أننا ندفع ديوننا لأنفسنا، فبقدر ما في هذا العالم من زواحف هناك في هذه القرية بخلاء، فهناك من يبخل لأنه لا يجد عملاً وهذا من عامة الناس، ومنهم من يبخل لأنه شبع بعد جوع وهذا هو الخبير الصاحي لمكر الحياة، وهناك من يبخل فيما أؤتمن على أملاك الآخرين وهو البراغماتي السلطوي النزق.
وعند كازية وسط القرية تجمع اليوم بخلاؤها من الأنواع الثلاثة لاستلام خمسين ليتر مازوت من مخصصات التدفئة الحكومية، وعلى قلب رجل واحد انهالوا على صاحب الكازية بالذم والقدح، لأنه رفض تشغيل المولد الكهربائي لأنه لا يريد أن يدفع ثمن لتر بنزين من جيبه، ورغم كل الإساءات التي علقت بوجهه إلا أنه كان يفصّم البزر ويهز برأسه لهم ثم يطلق النكات ببرود تام.
المميز في صاحب الكازية أنه لا ينكر أو يخفي بخله عن الآخرين، فهو يقولها صراحة حيث البخل بالنسبة له وسيلة من وسائل الترف العفيف، وبالفعل فقد كسب بفعل أسلوبه ذاك ثروة كبيرة مقارنة بغيره، لربما لأنه يعجبه ما جاء في الأثر بأن الثروة تتحصل للمرء إما من شح وإما من ميراث، و من نوادر هذا الشحيح قبل عدة أشهر زارته جمعية خيرية لجمع التبرعات لترميم المسجد في القرية، فصاح أمام متطوعي الجمعية قائلاً (إن رأيتموني أصلي في المسجد اكسروا رجلي).
اقرأ أيضاً: بعد حواري مع متشرد أنا لا أشعر بالارتياح مثله – شاهر جوهر
لهذا وأمام هذا النوع جلسنا اليوم جميعنا ننتظر الكهرباء على حائط الكازية، بالقرب مني رأيت “أسامة المخلوع” ينتظر مثلي حصته من المحروقات، كلما أراه أتذكر حديثاً قديماً سمعته خلسة عند الحلاق وقع بينه وبين شاب آخر يمتلك زائدة لحمية على أنفه، لفّ حينها “المخلوع” ساقاً فوق أخرى ودسّ فمه بوجه صاحب الأنف ذو الزائدة اللحمية، سأله هذا الأخير إن كان قد وجد زوجة جديدة أم أنه لازال باكياً على الأطلال باحثاً عن أخرى بعد أن خلعته زوجته وتطلقت.
فقال من قلبه بعينين منكسرتين حزينتين عابرتين :«أريد امرأة تحبني، فلا أحد يفهمني، أريد زوجة تحبني من قلبها لا من ركبتها، أريدها من فرط حبها لي أن تكون خاتماً في إصبعي، أي شيء أقوله لها تقول لي حاضر، أقول لها مثلاً لا تضعي زيت على الطبخة تقول لي حاضر، وحين أقول لها لا أملك المال تقبل وتعيش صامتة على الحلوة و المرّة».
– تقصد ألّا تكون متطلبة؟
– ألا تكون متطلبة نعم، زوجتي السابقة عافتني وعافت أولادها رغم أنها تأكل خبزتين على الوجبة، خبزتين وتقول أني أتباخل عليها.
قال صاحب الأنف ذو الزائدة اللحمية:
– النساء لهن معاملة خاصة، إنهن يردنّ أن تؤمّن لهنّ متطلباتهن و أن تقول لهنّ كلمة حلوة ..
– نعم أصبت، كلمة حلوة
– وأن تؤمن متطلباتهن
– نعم الكلمة الحلوة أهم شيء.
– أقول أن تؤمن لها …
– نعم، نعم الكلمة الحلوة أهم من المال، هذا ما أريده
أما رئيس الجمعية الفلاحية أمام الجميع يذرع المكان جيئة وذهاباً بضجر، ثم بلفتة صاح على صاحب الكازية:
– خلّص سمانا يا رجل، لدينا أعمال.
ألقى عليه صاحب الكازية نظرة باردة ثم اتهمه بالفساد قائلاً:
– هل ستبيع قمح الفلاحين في السوق السوداء مرة أخرى، أم أن هناك صفقة سماد عضوي مستعجلة تريد تهريبها.
اقرأ أيضاً: احذروا هذا النوع من الاحتيال.. سرق أجرتي – شاهر جوهر
لملم رئيس الجمعية ثوبه في تكة سرواله وفي لحظة عصبية كادا يتقاتلان، وبين سد ممن حجزوا بين الديكين باتا يعيران بعضهما ببخلهما، فقال بحقه رئيس الجمعية بلهجة بدوية كلاماً ثقيلا من صيغة (+18)، فرد عليه صاحب الكازية معايراً له ببخله أيضاً: (سبعك يلي بحياته ما اجتمع قدام مضافتك صرمايتين).
أما أنا فلا أبرئ نفسي من هذا الصنف، لربما الحرب والضائقة المعيشية هي السبب، فالبخل في هذه القرية كمتعة لا يستمتع بها إلا الآخرون، وأنا أيضاً كثيراً ما أكون من “الآخرين”، لهذا لا عبث إن كتب “الجاحظ” كتابه عن هذا الصنف من البشر.
كما أعتقد أنه لو كان “الجاحظ” بيننا اليوم يقف على دور المازوت، لكان قد قدم اعتذاره من بخلائه وقام برمي كتابه في “دجلة”.
اقرأ أيضاً: مثقفو ونخب حزب التلة في بلادنا- شاهر جوهر