عن الدهشة والحنين والفرح المصلوب على أحزان البلاد – سناء علي
يوميات سورية في أوروبا
سناك سوري – سناء علي
«بعد الثالثة ظهراً بقليل.. كل شيء يبدو اعتياديا.. رتيبا.. القرية هادئة.. والدخان الخارج من فوق الأسطحة يقول لك هناك بعض البرد.. وحدها طفلتي لا تكترث لم يغريها عرض جدتها بضفر شعرها وفضلت أن تلهو في الخارج.. هو شكل من أشكال الحرية أحترمه وأسمح لها وليذهب البرد إلى قلوب الخائفين منه دون مواجهة! بعيداً عن الفلسفة وربما ليس ببعيد.. بخلاف كل من صادفتهم في حياتي وكل ما شاهدته فيها.. فإن هذا المشهد مايزال حيا مدهشا لم تقتله الاعتيادية.. ياليت كل من حولنا يحملونا لنا دهشة مشابهة دائما!».
بهذه الكلمات عبرت صديقتي الصحفية عن شعورها إزاء مشهد الغروب في قريتها الساحلية، والذي لايزال قادراً على إدهاشها مرة بعد مرة ..بينما أشعر بالحسد تجاهها وأنا أخط تعليقي على صفحتها الفيسبوكية.
لطالما كنت أحتاج للدهشة، لطالما بحثْتُ عنها في كل مكان …لم تمنحني الحياة فرصاً عظيمة على هذا الصعيد ..كنت أحتال على طفولتي الرتيبة، بالصعود إلى سطح المنزل ليلاً، والبحث عن أضواء الطائرات الليلية ..أتابع وميضها حتى تغيب عن ناظري ..وأتخيل نفسي هناك ..في إحداها .. لطالما سافرت في إحدى السفن الخارجة من ميناء اللاذقية ..عندما كنت أجلس أوقاتاً طويلة على سطح تلك الدار أراقب تلك الأضواء المرتحلة إلى البعيد دون أن أعرف ماذا يختبئ خلف خط النهاية ذاك؟ ..فلا حكايات خيال كانت تُتلى على مسامعي عن البلاد المجهولة ..
أحسد صديقتي على دهشتها .. وأنا أبحث عن مثيل لها في شوارع أوروبا .. حيث الزينة تملأ المكان في أسبوع الميلاد..بعدما منحتني فيزا الشنغن الطلابية القدرة على عبور الحدود بين بلدان الاتحاد الأوروبي، بمبلغ بسيط يستطيع الطالب أن يتحمله، بينما حرمتني أسعار بطاقات الطائرة من القدرة على العودة إلى “سوريا”، خلال فترة العطلة، قبل أن أقتنع بفكرة البقاء هنا ومغالبة العواطف، واقتناص الفرصة الذهبية لمشاهدة احتفالاتٍ ملأت عيناي بدهشة روعتها عندما أرى مقتطفات منها على شاشة التلفاز.
المفارقة أن الطلاب السوريين قد انتشروا في كثير من البلدان .. في فترة العطلة .. كلٌّ ذهب باتجاه … فهناك الكثير من السوريين في كل مكان .. هولندا وألمانيا النمسا والتشيك السويد وفرنسا .. وغيرها من البلدان، والمفارقة الأكبر أنه لا داعٍ لمعرفة وثيقة بالشخص حتى تتمكن من زيارته، يكفي أن يكون أحد أصدقائك على معرفة به حتى يصطحبك إلى منزله وتقضي أيام العطلة هناك … ربما يكفّرون عن ذنوبهم تجاه بعضهم.. أو أنهم جميعاً يحنون إلى سنوات خلت، لم تكن السياسة قد لعبت لعبتها في تفريقهم وقتذاك.(ليست السياسة وحدها من فرقتهم).
تصحبني إحدى صديقاتي إلى منزل صديقتها في البلد المجاور لمكان دراستي، لا أعرفها سوى بالاسم، لا بأس، سأتعرف عليها، نغادر المطار ونتجه صوب مركز المدينة ريثما تصل مضيفتنا، صوت الفرح يملأ الفضاء، الزينة ووالأشجار، فرح الناس. الأسواق والمحلات، كل سيء يعدني برحلة من الدهشة والانبهار.
اقر أيضاً: الفرز الطائفي يلاحقنا إلى أوروبا.. لا يدركون أننا نتقاسم الموت والحب في “سوريا”
تمر عدة أيام ،أجوب أرجاء المدينة، وغيرها من المدن، احتفالات الميلاد تملأ الأجواء، الجمال يمتد أمام ناظريك، أبنية على الطراز القديم أنهار في منتصف الشوارع، تربط بينها الجسور، وتجوبها القوارب، في طقس شتوي ساحر، لفرح يغمر الوجوه، الموسيقى تصدح في كل مكان، كل شيء يدعوك لقطف الفرح المحبوس منذ سنوات، دون أن ينجح الأمر، أستحضر كل تلك الأحلام الطفولية …التي ظننت أني سأنعم بلقائها بعد سنوات طوال، فلا ينجح الأمر، فالغصة أقوى من هذا الجمال المتراكم أمام عيني، وأقر أني لم أكن أراه حتى بالأحلام.
أبحث عن تلك الدهشة التي تحدثت عنها تلك الصديقة، فلا تجد طريقها إلي عيناي ..عبثا أحاول … كأنما غرست الروح سهماً من حنين في المقلتين، أصابهما بعمى جزئي عن ذاك الوهج، وسكب غيمة من العتم فوق الأضواء ..التي استحالت كتلة ثقيلة الوزن على قلبي…لكأنها عبرت من حالتها الموجية، إلى فيزياء الكتلة والوزن.
عبثا أحاول ..فلا أحصد إلا مزيداً من الفشل ..لكأنما فقدنا القدرة على تذوق الفرح بسهولة، لكأن الجمال استحال إلى نوع آخر ..لكأنما غادرتني الدهشة منذ أن غادرت تلك الأرض، التي لا تزال قادرة على إدهاشك بالرغم من سنوات الموت والقهر التي تعصف بها ..أنظر إلى الصور القادمة من هناك …مزيج من كل شيء ..الحياة الخارجة من رحم الموت ..الفقر المدقع والثراء المتوحش ..الجوع والتخمة ..العذاب والألم ..النور والعتمة ..حتى أمطار الخير زادت من وطأتها على الناس وفاضت الشوارع ..كما القلوب ..بينما تنفث صنابير المياه هواء فارغاً..كل هذا ولازال بوسعهم أن يفرحوا..يغطون جراحهم بملح دموعهم وينبتون ..يبحثون عن ذرات فرح تتطاير من بعيد ..
تدهشك تلك البلاد بكل ما فيها ..بفرحها العجيب ..بحزنها المعجون بتراب قراها ..بقدرة أبنائها على ملاقاة كل صباح كأنما سينتهي كل شيء عند إشراقة أول خيط من خيوط الشمس ..
تدهشك تلك البلاد التي احترفت إغواء أبنائها.. تعدهم بليلة ميلاد شهية.. منذ زمن طويل، ولا يزالون بانتظار بابا نويلهم وعربته وغزلانه فإذا بالموت الملفوف بالشرائط الحمراء ينزل من تلك المداخن السحرية بدلاً من تلك الهدايا، ولا يزالون معلقين على تلك الشجرة..
تدهشك تلك البلاد التي لا تزال تحمل صليبها من درب جلجلة الى آخر.. تغفر لكل من زرع مسماراً في نعشها، وتلقي عليه تحية السلام .
عبثاً أحاول أن أصغي لموسيقا الطريق ..عبثاً أنزع من رأسي صوراً قديمة ..عبثاً أحاول اقتفاء أثر جديد ..عبثاً أحاول أن أنزع رائحة المطر الأول هناك ..حتى المطر والثلج هنا رتيب ..لا قسوة فيه ولا صوت يطرق على النافذة .. لقد خاب أملي وأعلنت الهزيمة أمام نفسي فلا أرض جديدة ستلملم شتاتي وسأبقى أسيرة لتلك القصيدة التي ترنم بها شاعر يوناني يوما ما ..
تقول لنفسك: سوف أرحل
إلى بلاد آخرى إلى بحار آخرى
إلى مدينة أجمل من مدينتي هذه
من كل جمال في الماضي عرفته…
لا أرض جديدة، يا صديقي هناك
ولا بحر جديد: فالمدينة ستتبعك
وفي الشوارع نفسها سوف تهيم إلى الأبد
وضواحي الروح نفسها ستنزلق
من الشباب إلى الشيخوخة وفي البيت نفسه سوف تشيخ وتموت!..
لا سفن هناك تُجليك عن نفسك
آه! ألا ترى،
أنك يوم دمرت حياتك في هذا المكان
فلقد دمرت قيمة حياتك
في كل مكان آخر على وجه الأرض؟!…”
انهضي أيتها البلاد الحزينة والمتعبة ..فلا يليق بوجهك سواد الموت ..انهضي وامسحي بكفك المدمى على وجوه المتعبين من أبنائك وسامحي كل من خذلك، وأنا منهم ..اذ غادرت ترابك ..فعاقبني وجعك ..وتسلل إلى أحلامي ..وبقي صليبك على ظهري ..أحمله أنى يممت وجهي، في رحلة البحث عن تلك الدهشة التي كانت تحلم بها فتاة صغيرة تقف على سطح الدار تلوح لأضواء الطائرات في عتمة الليل، وتركض بعينيها خلف أنوار السفن ..بينما كل ما تتمناه أن تقف في ساعة الغروب عند شاطئ تلك القرية الساحلية ..
اقرأ أيضاً : خبي كيسك الأبيض والأسود ليوم التسوق في “أوروبا”