ليس صباح الأمس بالجيد كفاية. حبات الصقيع الباردة تتكسر على الوجوه تاركة خلفها جواً مشحوناً بالعصبية. الوجوه هي هي كل يوم لا تتغير. مخرّشة و منذ بدأت الحرب تمارس التغابي واليتم عن سابق إصرار. الكل حول بيتي خرج يرتدي جزمته يتفقد ما خلّفته العاصفة من دمار وخراب. وأنا مثلهم تسلقت سطح منزلي حتى أعيد إصلاح ما دمرته الريح لشبكة النت الخاصة بي.
سناك سوري – شاهر جوهر
”أبو عمر“ صاحب الدكان الوحيد في حيّنا. يرفع غلق محله ويكشط أرضيته وهو يتلفّت حوله كالملسوع لعله يلتقط أحداً يكلمه كما هي العادة كل يوم. فأصحاب المحال التجارية في قريتي مثل سفسطائيي القرون الوسطى يمتهنون الكلام بحذق. ودكانه أشبه بمركز إعلامي تجتمع فيه كل أنواع البشر لتناقل الأخبار أثناء تبضعهم من عنده. من طلاب المدارس. أعضاء المجالس المحلية. موظفوا المنظمات الانسانية. نازحون. نسوة. رجال الدين. موظفوا الحكومة وحتى الرعاع ممن لهم دور ملحوظ في المجتمع ومن لف لفيفهم..
ولمثل هذه الظروف أستعين به. إذ لا أجدني مضطراً لأفتح التلفاز أو أبحث عن أخبار القرية عبر الإنترنت في حال تعطل. فصوته يملأ الأرجاء أثناء الحديث. يكفيني الجلوس أمام منزلي لأفهم تفاصيل اليوم كاملاً (من تزوج .. من طلّق .. من قُتل ومن هاجر) حتى أنه يعرف جميع النسوة الحوامل هنا وعدد شهور وضعهن لحملهن. هو ثورة إعلامية بحد ذاته. لا أعرف كيف أستثمر مواهبه الإعلامية والاجتماعية.
اقرأ أيضاً : ست شبان ينقبون عن الآثار برعاية الخبير “حبّو”
”أم حميد“ أو ”هندية“ (سميت بذلك لوجود دائرة وحميّة حمراء فوق عيناها حين ولادتها مثل نسوة نجوم بوليوود. لكنها اختفت مع استمرار بشرتها بالسمرة جراء تعب السنين السالفة). هي الأخرى مشهورة بكثرة أحلامها . لطالما حلمت بأعراس في حيّنا لتتوالي الأتراح والمآتم بعد ذلك. لهذا كل من يحلم بها يلتزم الصمت ولا يخبر أحداً. من ثم يرتدي قميصه أو ثوبه بالمقلوب لمدة ثلاثة أيام (وهي عادة لطرد النحس تم اتباعها في قريتي منذ القديم) وحين يفعل الشخص ذلك في حيّنا نعرف أنه رأى ”أم حميد“ في المنام .
تدك جزمتها في ساقيها. وقد ربطت طرف ثوبها بخصرها المعفّر بالوحل والطين. تجر على الطريق جذع شجرة كلخته الريح العاصفة ليلة أمس علّها به تصنع شيء من الطعام لأطفالها . تلوّح بيدها لي من بعيد لتصرخ بعدها:
– مرحبا جار . زمان هالقمر ما بان ..
أرد بتواضع : أهلين جارتنا. والله الي خاطفة أمو ما بيطلع يدور عليها بهالجو الحلو يا جارتنا (وهي عبارة نستعملها بكثرة هنا كناية عن سوء الجو وبرودته).
– شو صار في يلي بالي بالك ؟
تسألني ثم تومئ برأسها بحركة خفيفة لجهة الجنوب. فأفهم أنها تقصد بسؤالها رغبتها في معرفة هل قتل أو تأذى أحد بآخر المعارك التي جرت على أطراف القرية بين كتائب المعارضة المسلحة. لهذا أزم فمي وأرفع يداي في الهواء لأوضّح لها عدم علمي بشيء. تصمت ولسان حالها يلعن الحرب ألف مرة.
اقرأ أيضاً : شهود على زواج في وادي الرقاد
يسمع ”أبو عمر“ كل ذلك. تنتفخ أوداجه لتجاهلنا له في الحديث. من ثم ينبري في حديث طويل يسرد خلاله تفاصيل القرية كاملة. وما جرى ليلة أمس.
في هذه الأثناء يمر ”أبو أدهم“. خمسيني أسمر نحيف . بعنق قصير لا يورث سوى حركة سريعة لرأس في وجهه خمسة ثقوب وحفرة. يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق على الدوام . على خلاف السراويل العريضة والجزمات التي يحبذ فلاحو قريتي ارتدائها دائماً.
يسر كثيراً حين يقول له أحدهم أنه المحامي الوحيد في قريتي. كما أنه يتفاخر في جميع المناسبات أنه الوحيد الذي زاول مهنته في المحاماة هنا .
أقترب منه . يمسك بيدي ويجرني لمكان بعيد عن الجميع. وكعادته التي حفظتها عن ظهر غيب. يبدأ حديثه ببادئته المعتادة : نحن المثقفون نفهم على بعض. لا تشغل وقتك بالحديث مع الرعاع حتى لو كان لهم دور فعال في المجتمع . هه هه هه . عرتشلون? (عرتشلون = عرفت شلون = هل فهمت قصدي). خلي حديثك موزون وبحكمة ولا تناقش غير الي مثلنا . «ومن يؤته الحكمة فقد أوتي فضلاً كثيراً» عيدها .
أردد خلفه :
اقرأ أيضاً:
– من يؤته الحكمة فقد أوتي فضلاً كثيراً ..
– عيدها كمان
– ومن يؤته الحكمة فقد أوتي فضلاً كثيراً ..
– تمام افطن للسالفة (افطن للسالفة = هو فعل أمر يستعمل في اللهجة البدوية بمعنى تذكر هذه النصيحة أو هذا الكلام) .
ثم وكما العادة أيضاً يكمل :
– شو آخر كتاباتك؟ كتبتلنا شي عن الرعاع وعن الدور الي بيمارسوه بالمجتمع. أكتب كيف دمرو مستقبلنا ووصلنا لهالحال. أو أكتب عن المتخلفين ولا تأخذك بالحق لومة لائم هه .. هه .. هه. لومة شو ؟
– لومة لائم.
– لومة شو ؟
– لك لومة لائم
– كم تعطيني من 10 على هذه النصائح ؟
– الله يسامحك بعطيك 11 من 10 .
– أنت خطير . وكل يوم بكتشف فيك شي جديد .. لهذا السبب تعال لنتناقش في منزلك ونشرب شاي لربع ساعة فقط أنا مستعجل. لأني بعرف أنك بتحب حديثي.
وبما أني أعرفه جيداً. وأعرف أن الربع ساعة ستجر معها أرباع وأنصاص وربما نهار كاملاً. قلت له بجدية:
– بزعل منك .. اليوم الجمعة «الصلاة يا عباد الله» (قلتها بلهجة قرشية) . الصلاة شو ؟
ثم ردد خلفي :
– يا عباد الله
– الصلاة شو؟
– يا عباد الله
– كم تعطيني من 10 ؟
– 10 من 10 هه .هه .هه